عندما يفتي السيد مقتدى الصدر( 12 أغسطس 1973 - .....) وأسميها فتوى على الرغم من عدم نيله درجة الاجتهاد لأن ما يقوله أكثر خطورة من فتوى مجتهد مقلَّد تتعلق بالعبادات وما شاكل ذلك، أقول عندما يفتي بالجهاد ضد ما يسميه الفكر العلماني والفكر الغربي، إنما هو يسوغ تماماً ما كان يتعرض له رجال الدين الناشطون من قمع واستبداد من قبل الحكام الدكتاتوريين؛ ذلك أن الفكر الديني بهذا النوع من الهشاشة الفكرية ومعاداته للأسلوب المتمدن للحياة ونظرته السياسية الضيقة جداً تجعل تحجيمه ومقاومته والحدّ منه أمراً إنسانياً في المقام الأول. كان هذا مسوغاً للأنظمة الدكتاتورية في أن تسحق الحركات والأفكار الدينية، وبمجرد أن تعرض هذه الأنظمة للرأي العام طبيعة أفكار تلك الحركات حتى تحصد تأييداً كبيراً من قبل عموم الشعب. أفكار مرعبة قائمة على العنف ونبذ الرأي المختلف والإيمان بالخرافات والخزعبلات ومعاداة التطور المادي للحياة والإسراف في الجانب الدعائي والتعبوي والوعظي المملّ.
الفكر الديني السياسيّ المتعلق بالحكم، هو الوجه الكئيب الكالح للحياة. يذكرنا هذا بحكم الأباطرة الذين أدخلوا أوروبا في عصر السبات والتخلف الأعمى عندما أجهزوا على ما كان يسمى في فلسفة الحكم نظرية السيفين:
Theory of two swords
أي قوة السلطتين الدينية الروحية، وسلطة الدولة. واستبدلوها بنظرية السيف الواحد:
Theory of one sword
الذي جعل البابوات يجمعون السلطتين معاً، ليمارسوا التحريم والتجريم استناداً إلى رؤية دينية ضيقة، تزن الأشياء بميزان المقدنس والمدنس. ولم تتخلص أوروبا من ذلك الظلام إلا في القرنين السابع عشر والثامن عشر في ظل فكر عصر الأنوار.
الفكر الديني يصادر جميع الأفكار بما فيها نفسه.
الفكر العلماني يضمن للفكر الديني حريته ويعمل على تهذيبه وترويضه.
كل فكر ndash; أعني الثبات الفكري ndash; هو خرافة؛ فليس ثمة ماركسية واحدة ولا عقلانية ولا ظاهراتية ولا مادية ولا مثالية ولا إسلامية ولا مسيحية ولا شيعية ولا سنية ولا ليبرالية أو علمانية واحدة، التغير قانون الفكر. ومن ينتج الأفكار فهو نفسه لا يسيطر على الانشطارات التي تحدث في بنية الفكرة التي ينتجها. المفكر من يؤمن بالانشطار، لا من يؤمن بالتماسك الكاذب للفكر. فرضية التماسك، خرافة والحلقة الأضعف في البناء الفكري والنظري.
أمامكم تاريخ الفكر والنظريات، مارسوا قراءةً تبحث عن التماسك، فلن تجدوه أبداً، هناك هيغل وهناك الهيغليون الجدد، هناك هيدجر وهناك سارتر، هناك هوسرل وهناك ميرلوبونتي، هناك ماركس وهناك ألتوسير، هناك ابن تيمية وهناك ابن عربي، هناك الخميني وهناك حسين فضل الله، هناك سيد قطب وهناك سيد كشك، هناك وهناك لا تنتهي، وتلك فرضيتي على خرافة الثبات أو التماسك الفكري. هكذا إذن، لنؤمن بفرضية الاختلاف، وبجوارها نؤمن بأن الاختلاف ndash; في الفكر - شأنه شأن الاتفاق ليس من ورائه ضرر. الاختلاف يدفع الحياة والفكر إلى الأمام. إنه بصمة الإنسان الانطولوجية.
إذن، العلمانية ليست سكة حديد لا يمكن لها أن تنحرف قليلاً عن موضعها فينقلب القطار، العلمانية تسعى دائماً إلى شطر البنية التي تنظر من خلالها إلى العالم لتستوعب حركته السريالية، حركته التي لا تهدأ. تريد أن تصغي وتلحق بإيقاع الحياة المتسارع، لتديمه لا لتوقفه أو ترجعه إلى الوراء، بخلاف الفكر الديني الذي تنهل منه الحركات الإسلامية ومنها حركة التيار الصدري إذ عمليات لوي عنق الحياة إلى الوراء ndash; الوراء المظلم طبعاً- على أشدها.
إن تطور مدنية الحياة، وتطور العلم والفكر والثقافة عموماً وتطور الجوانب العقلية طوال مسيرة البشرية، إنما صنعه العلمانيون الذي ينظرون نظرة مستقلة عقلانية ملموسة واقعية إلى جميع الظواهر. وفي العراق، فإن الممثل الحقيقي للإرث الثقافي هو الثقافة العلمانية، لا تلك الثقافة العلمانية الملحدة، إذْ ثمة فرق بين علمانية الشرق والغرب، فطه حسين لم يكن ملحداً لكنه كان مفكراً علمانياً بمفهوم الشرق. ومن هنا، فإنّ الفكر الديني لا يمكن أن يقوم بعملية احتواء للمنظومات الفكرية غير الدينية، أعلى نماذج الفكر الديني احتاجت إلى الفكر العلماني التقليدي ولاسيما في طرائقه في الجدل والمنطق، وتحتاج الآن إلى الفكر العلماني المعاصر في ميادين الاتصالات والمعلومات والإعلام بوجوهه المختلفة ومنها طبعاً موقع ( الحنانة) الذي قرأت فيه كل بيانات السيد مقتدى، فلولا تلك العقلية العلمانية والعلم العلماني لاقتضى الأمر مني أن أمشي من شمال القطب إلى النجف مشياً على الأقدام حتى أظفر ببغيتي؛ لأن كل وسائط النقل إنما هي منتوجات علمانية.
لا أريد أن أقول بأن تراث الفكر العلماني والفكر الليبرالي أعمق وأكبر من أن يفسره السيد مقتدى، وتلك بدهية لا يجرؤ أحد على دحضها، لكن من حقنا أن نتساءل في بلد مثل العراق ذي التكوينات المختلفة: من يعيث الآن فساداً في البلد وأهله؟ هل هم العلمانيون والليبراليون أم التيارات الدينية؟. قضايا الفساد المالي، وتهريب نفط الجنوب، وسرقة الآثار، وتغيير هوية البلد، والاعتداء على الأماكن المقدسة، واغتيال الناس الأبرياء، وشلّ حركة العمل، وتهجير الناس، واغتصاب النساء والأطفال، وتهجير العلماء والمثقفين والأطباء وكوادر البلد المتعلمة، وإفشال التجربة الديمقراطية، واغتيال الصحفيين، وتزييف الحرية بمختلف وجوهها، و....؟ من الذي يعيث فساداً؟. من الذي جعل أعداداً غفيرة من المسلمين يتحولون من أناس مؤمنين إلى ملحدين لا يتورعون من إشهار إلحادهم؟. في إحدى المرات التقيت بجماعة في المدن التي تخضع لسيطرة جيش المهدي، وكان عددهم لا يتجاوز 15 شخصاً أكاد أقول إنهم جميعاً كانوا يتباهون بإلحادهم في ظل عمليات تسفيه الدين إلى الحد الذي لا يقتنع به حتى المختل عقلياً. هل هذا عمل العلمانيين أو المتديين؟.
لقد أصدر السيد مقتدى أمراً بشطر جيش المهدي إلى شطرين إذ سيكون الشطر الثاني كما يقول: ( عنواناً ثقافياً عقائدياً دينياً اجتماعياً يجاهد الفكر العلماني والغربي ويحرر القلوب والعقول من الهيمنة والعولمة بكل ما أوتي من فطنة وعلم وثقافة وإيمان ووعي واطلاع وخبرة ويمنع حملهم السلاح أو استخدامه بل يكون حصراً على القسم الأول) وهنا ينبغي أن نتساءل: مَن يتحرر مِن مَن؟. مَن المستبد ومَن الرازح تحت نير الاستبداد؟. هذا التساؤل من ضرورات إصدار الفتوى؛ بمعنى أن السيد مقتدى كان يجب أن يتفحص الواقع قبل إعطاء مدرك لجماعته بالاعتداء على ما تبقى من الكفاءات العراقية التي لا تريد أن تنضوي قسراً تحت لواء من ألوية التيارات الدينية. ومن المؤكد، أن الواقع يكشف عن أن المستبد الجديد في المجتمع العراقي هم التيارات الدينية:
1- المنظمات الشيعية: جيش المهدي الجناح العسكري التابع للتيار الصدري، وفيلق بدر التابع للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية، ومليشيات مختلفة لحزب الدعوة بشقيه، وحزب الفضيلة، وحزب الله، وحركة ثأر الله، وسواها.
2- المنظمات السنية الأصولية، وفي مقدمتها: مجلس شورى المجاهدين في العراق المتكون من: ( تنظيم قاعدة الجهاد في بلاد الرافدين، وجيش الطائفة المنصورة، وسرايا أنصار التوحيد، وسرايا الجهاد الإسلامي، وسرايا الغرباء، وكتائب الأهوال، وجيش أهل السنة والجماعة) بالإضافة إلى جيش عمر، والجيش الإسلامي في العراق، وسوى ذلك.
إن التيار الصدري حركة شعبية استثمرت موقف الشهيد محمد محمد صادق الصدر الذي كان مصدر رعب للنظام السابق، ومن هنا لا يجب التفريط بهذا الموقف من خلال توجه التيار الصدري إلى ملاحقة حرية التفكير والتعبير. الزخم الشعبي الداعم للتيار الصدري ينبغي استثماره في تأسيس قاعدة للعمل السياسي الوطني الخالص المستقل النابع من مشكلات الواقع ومن تطلعات هؤلاء الموالين للتيار لا أن ينهكهم في حروب داخلية ومشاكل جانبية؛ لأن ذلك كفيل بأن ينفضّ هؤلاء الموالون بين طرفة عين وإغماضتها، فتضيع تلك الثروة التي لا تقدر بثمن. وفي ظني، أن العلمانيين هم الأكثر تعاطفاً مع التيار لا بسبب أفكاره ومعتقداته بل بسبب هؤلاء الموالين والأنصار الذين يمكن أن يكونوا عماد تجربة ديمقراطية حقيقية تحرر البلد من العبودية والاستبداد. ذلك أن الفقه السياسي يفسر ( الاستبداد) على أنه خنق لحرية الإرادة الإنسانية في التعبير والاختيار والممارسة وأسلوب الحياة، فليس من مصلحة التيار الصدري أن تنضاف إليه تهمة جديدة في خنق الحريات الفكرية والقضاء عليها.
[email protected]