عكس مؤتمر البتراء الرابع مجددا وجود رغبة لدى قلة مستنيرة في نقل المنطقة ألى أفق جديد. كما في السنوات الأربع السابقة، جمع المؤتمر الذي أنعقد بين السابع عشر والتاسع عشر من الشهر الجاري مجموعة كبيرة من الحائزين على على جائزة نوبل وشخصيات عربية وأجنبية مرتبطة بالسياسة والأعلام والقطاعات التي لها علاقة بالحضارة، خصوصا بالتعليم والأقتصاد والتكنولوجيا المتطورة، أضافة ألى شبان من كل دول المنطقة تقريبا تحدّثوا عن همومهم وأهتماماتهم ورؤيتهم للمستقبل. تحدّث هؤلاء بلغة الأرقام التي يفقتقدها معظم العرب للأسف الشديد.
مؤتمر البتراء ليس حدثا عاديا، ولم يكن يوما كذلك، بعدما بات يمثل رؤية على أرتباط بالمستقبل يفتقدها أهل الشرق الأوسط ألى حد كبير، بأستثناء أولئك الذين أنخرطوا باكرا في الأصلاحات. لذلك أستطاع الملك الشاب عبدالله الثاني، على الرغم من الأمكانات المتواضعة لبلده، جمع عقول، بينها أفضل العقول العالمية، للبحث على نحو مستفيض بالمشاكل التي تواجه الشرق الأوسط بصفة كونه جزءا من العالم. ولذلك، كان في البتراء نقاش تناول تطور الأقتصاد العالمي وكيفية ردم الهوة بين الفقراء والأغنياء، وألأزمة الغذائية العالمية وكيفية معالجتها. وشارك في تلك الندوة الزعيم البوذي الدالاي لاما الذي أضفى على مؤتمر البتراء لهذه السنة بعدا روحيا. وخصصت أحدى الندوات لمناقشة كيفية الأستثمار في الجيل الشاب عن طريق أستخدام وسائل تعليمية متطورة. وشمل النقاش مسائل من نوع كيف يمكن أن تكون البرامج متلائمة مع الأتجاهات الأجتماعية والثقافية والداخلية في مجتمع معيّن.
كان مهما الأنطلاق من أن الجيل الشاب يشكل نسبة ستين في المئة من سكّان الشرق الأوسط. في البتراء، لا تدور نقاشات في المطلق. لا نقاش من أجل النقاش بمقدار ما أن النقاش الذي دار في المدينة التاريخية التي صارت أحدى عجائب الدنيا، يستند ألى لغة الأرقام والواقع السائد في المنطقة. أنه الواقع الذي يعتبر كثيرون من أهل المنطقة وحكامها أن في أستطاعتهم الهروب منه بمجرد تجاهله. تحولت البتراء ألى أحد الأماكن النادرة في الشرق الأوسط التي يبحث فيها في كيفية تغيير الوضع من أساسه، أي أنطلاقا من مواجهة المشاكل التي تعترض نشوء جيل شاب يعيش في منطقة مستقرة في ظروف طبيعية تسمح له بأن يكون جزءا من الثورة التكنولوجية التي يشهدها العالم ودور القطاعين العام والخاص في تحقيق ذلك.
كذلك، كان مهما الأنتقال ألى نقاشات ذات علاقة بالتقدم الذي يشهده العالم في حقول الطب والعلوم والتكنولوجيا في ظل حال ركود في الشرق الأوسط حيث أزمات تتفاقم بسبب الزحف المستمر والمتزايد من الريف ألى المدن وأنتشار الأوبئة وتردي نوعية المنتجات الزراعية وأنتشار التطرف والتزمت ... من أفضل من علماء حازوا على جائزة نوبل في ميادين مختلفة لدى محاولة معالجة مشاكل الشرق الأوسط وسكانه بهدف الخروج بأفكار جديدة تساعد في نقل المنطقة ألى مرحلة جديدة مختلفة؟
لم تكن هناك أوهام في مؤتمر البتراء. لا أوهام في ما يتعلّق بصعوبة الأوضاع التي تواجه المنطقة. كان الملك عبدالله الثاني في غاية الجرأة عندما وازن في خطابه بين السياسي وغير السياسي. في الجانب غير السياسي، شدد على quot;أهمية العقول المشاركة في المؤتمر في منطقة نصف سكانها دون الثامنة عشرة من العمرquot; وعلى quot;أهمية تغيير حياة الناس على الأرضquot;. وفي الجانب السياسي، ركّز على أن الأطار العام للتغيير يتمثل في الأستقرار وألأعتدال على الصعيد الأقليمي. من هنا، جاء تنبيهه الذي أرتدى طابع التحذير من quot;تفويت الفرص المتاحة هذا العام لأقامة دولة فلسطينية ذات سيادة، مستقلة وقابلة للحياة ألى جانب أسرائيل آمنة ومعترف بها في منطقة موحدة تنعم بالسلامquot;. أعتبر بكل بساطة وصراحة أن الشرق الأوسط لا يمكن أن يخرج من دائرة الخطر الذي يشكله الأرهاب والتطرف والعنف من دون quot;تحقيق السلام من خلال أيجاد تسوية شاملة للنزاع العربي - الأسرائيليquot; واصفا تفويت فرصة أقامة الدولة الفلسطينية هذا العام بquot;الخطأ الكبيرquot;.
لا بدّ من محاولة وضع مؤتمر البتراء في أطاره الأقليمي. المنطقة تحتاج ألى التعاطي مع الوضع السياسي الذي تعاني منه ومع حال التخلف السائدة في الوقت نفسه. لا يمكن كسر الحلقة المفرغة من دون تحقيق السلام الشامل. في الوقت نفسه لا يمكن أنتظار السلام الشامل للبدء في الأصلاحات أو البحث الحقيقي في المشاكل التي تعاني منها شعوب المنطقة على رأسها التخلف في المجال التعليمي. أمتلك الأردن ما يكفي من الشجاعة للقول أن لا بدّ من العمل من أجل السلام الشامل من دون تجاهل الأوضاع الداخلية مع الأعتراف بهذه المشاكل الداخلية بدل الهرب منها. تعرف المملكة الهاشمية أن ليس مطلوبا أنتظارالسلام الشامل للمباشرة في البحث عن الحلول التي تؤمن مستقبلا أفضل للأردنيين ولأهل المنطقة. من يتوقع السلام الشامل قي المستقبل القريب يراهن على سراب ليس ألاّ. وبكلام أوضح، أن السعي ألى السلام الشامل والعمل من أجله لا يمكن أن يحولا دون الحديث الصريح عن المشاكل الداخلية على الصعيد العربي ككل وبصراحة متناهية بعيدا عن أي نوع من العقد.
أختصر مؤتمر البتراء الحال العربية من دون مواربة. وكشف في الوقت ذاته من خلال المواجهة التي حصلت بين شمعون بيريس رئيس الدولة في أسرائيل والأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى أن هناك عقما على الصعيد السياسي وأن لا أمل يرتجى من أي حوار في الوقت الراهن، ألا اذا كان مطلوبا أن يكون هناك حوار من أجل الحوار بطريقة غير مباشرة أو مباشرة على غرار ما يحصل حاليا بين النظام السوري والدولة العبرية. فبيريس تحدث بلباقة ليس بعدها لباقة عن السلام ولم يذكر كلمة الأحتلال ولو مرة واحدة ناسيا أن أسرائيل تحتل أرضا عربية! أما عمرو موسى فقد بدا في مؤتمر البتراء كأنه من عالم آخر. كان يتحدث ألى جمهور عربي على أستعداد دائم للتصفيق له متناسيا أن هناك تقصيرا عربيا على كل صعيد في المواجهة مع أسرائيل بما في ذلك في كيفية التعاطي مع الوضع في غزة ومع quot;حماسquot; بالذات التي تسيطر على القطاع والتي تبرر أرهاب الدولة الذي تمارسه أسرائيل.
أختصر خطاب العاهل الأردني الذي أفتتح به مؤتمر البتراء جملة التحديات التي تواجه الأردن خصوصا والعرب في شكل عام. بالطبع، ليس في الأمكان ألأتكال على أدارة أميركية كأدارة الرئيس بوش الأبن لتحقيق تقدم حقيقي على صعيد أقامة الدولة الفلسطينية، على الرغم من كل ما وعد الرئيس الأميركي بتحقيقه قبل نهاية ولايته. ولكن لا يمكن في الوقت نفسه تأجيل البحث في المشاكل العربية والأقليمية وربطها بتحقيق السلام. لم يكن مؤتمر البتراء سوى تعبير عن محاولة لكسر الحلقة المفرغة وتوفير أمل بمستقبل أفضل لكل سكان المنطقة. لعل أفضل من أختصر المؤتمر أحد حاملي جائزة نوبل الذي قال في الجلسة الختامية : quot;الحضارة سباق بين العلم والكارثةquot;. ربّما يمكن القول أن رسالة مؤتمر البتراء تختصر بأن لا ضرورة لأنتظار الكارثة ما دام في الأمكان الحصول على العلم والمعرفة عن طريق بعض أفضل العقول في هذا العالم... ولو عبر دولة متواضعة لا تبحث سوى عن الأستقرار والأعتدال في منطقة يسودها التطرف والجنون ... ألى أشعار آخر.