الطبل والزمر والشجب والتنديد في الساحة السياسية المصرية الآن على أشده، ولابد إذن أن يكون ما يستنفر الأشاوس والأماجد أصحاب الباع في الحروب الكلامية هو إسرائيل صخرة المبكى أو العويل، تلك التي نأتي بها عمداً لتسد أمامنا أي وكل طريق نسلكه، فهي هاجس النهار والليل الذي نصر ألا يفارقنا أو نفارقه.. لا تبدو هذه الرفقة الحميمة أو اللدودة مجانية بأية حال، فعندما تعجز أو تجبن عن بذل جهد للسير في طريق يمتد أميالاً في سبيل التنمية والتقدم، تلعب الصخرة الإسرائيلية دور المبرر الرائع لقعودك وفشلك، بذات قدر فائدتها في تفريغ شحنات الأحقاد الأيديولوجية والدينية، التي تصطرع داخل النفوس الخاوية من أي رؤية للعالم، غير تلك المحصورة في ثقب الصراع والعداء مع الآخر، أي آخر يا حبذا لو كان صهيونياً إمبريالياً!!
يحار المراقب الموضوعي لما يحدث من المتثاقفين حول هذا الموضوع من غوغائية وتحريض، يحار في حقيقة الأمر وبواعثه، فعندما تكون مشكلة مصر هزال الإنتاج بما فيه إنتاج الخبز، وما يترتب على ذلك من عشرات الغرقى من المصريين، الذين يهربون من جحيم مصر العربية إلى أوروبا الإمبريالية، بحثاً عن لقمة خبز وكرامة إنسان، وفشل الحكومات المصرية عبر عقود وعهود في مقاربة الإشكالية مقاربة جادة وصحيحة، تضع الإنسان المصري على طريق الموازنة بين إنتاجه واستهلاكه، ثم نجد أشاوس المتثاقفين يصرفون انتباه الجماهير والدولة عن الورطة الحقيقية، إلى قضيتهم الأثيرة اللعينة المسماة الصراع العربي الإسرائيلي، نحتار هل يفعلون هذا بتلقائية مصدرها طبيعة تكوينهم وقدراتهم الثقافية، أم أنهم دمى تحركها أصابع تآمرية، كتلك التي تخايلنا أو نتخيلها في كل أمر من أمورنا، مؤامرة تدفع هؤلاء ليصرفوا الناس عن النقمة على أحوالهم المعيشية المتردية، والتي تضع الحكومة في حرج وخطر بالغ، إلى نقمة حنجورية على الحكومة أيضاً، لكنها نقمة من النوع الهين والمعتاد، فلن تلبث طبول ودفوف الشجب والتنديد أن تخفت شيئاً فشيئاً، لينصرف المتثاقفون يبحثون لهم على مناسبة أخرى مثيلة، للطم الخدود الصفراء من سوء التغذية؟!!
إذا استعنا بسدادات الأذن لحمايتنا من الصياح والتشنجات الحقيقية والمفتعلة، وحاولنا أن نبحث مسألة تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل بموضوعية، سنجد ثلاث نقاط جديرة بالبحث:
bull;أولاً مسألة تصدير الغاز الطبيعي من حيث المبدأ.
bull;ثانياً مسألة أسعار وتعاقدات الغاز والبترول المصري.
bull;أخيراً مسألة التصدير لإسرائيل من حيث المبدأ.
بالنسبة لمبدأ تصدير الغاز كمادة خام، يعتبر في نظر رجال العلم والصناعة والاقتصاد جريمة في حق مصر بكل المقاييس، فالاحتياطي المتوفر منه ضئيل، مقارنة بالدول المصدرة للغاز مثل قطر والجزائر وروسيا، وتشير التقديرات إلى نضوبه في أقل من عشرين عاماً، ولم يقصر رجالات مصر في مناشدة الحكومة بالكف عن توجه التصدير هذا، والعمل على استخدام تلك الثروة المحدودة كمادة خام، تصنع منها البتروكيماويات كأولوية أولى، يليها استخدامه داخلياً كمصر للطاقة، خاصة في مصانع الأسمدة والأسمنت وما شابه من صناعات مستهلكة للطاقة، ثم الاحتفاظ بما يزيد عن ذلك كاحتياطي من حق الأبناء والمستقبل.
لكن حكوماتنا الرشيدة التي تسير بمبدأ quot;أحيني اليوم وأمتني غداًquot; لا تفكر بتلك الطريقة، وإنما كل ما يهمها جمع أي قدر من الأموال تسد به عجز الموازنة المختلة جوهرياً، حتى لو تم ذلك عن طريق أن يأكل الآباء الخبز الذي هو حق لأبنائهم وأحفادهم.. تصدير الغاز الخام جريمة إذن ترتكبها الحكومة في حق مصر، مع سبق الإصرار والترصد، أياً كانت الجهة التي تصدرها له، وبغض النظر عن السعر الذي تبيع به.. جريمة عجز وقصور وإهدار لموارد هي محدودة وضئيلة بالأساس!!
ثانياً تعاقدات وأسعار بيع الغاز والبترول المصرية تتم ndash;شأن كل شيء في مصر- بعيداً عن الشفافية، وكأنها خطط عسكرية لغزو المريخ أو حرب الكواكب، ويكون الحديث هكذا عن إهدار المال العام وثروات مصر مبرراً، سواء تم الإهدار لأسباب وضغوط سياسية كما يتصايح الأشاوس، أو لدوافع الفساد والتربح، ويكون من الطبيعي والأمر هكذا ألا يعتبر المواطن المصري أن مصر ملك لنا جميعاً، وأننا نعيش في ظل دولة مؤسسات، وإنما تدفع الطريقة التي تدار بها مثل تلك القضية الخطيرة الناس إلى الاعتقاد أننا رعايا أو أقنان في إقطاعية خاصة، تمتلكها عائلة أو تحالف عائلات، تقوم باستدرار حليب البقرة المنهكة إلى آخر رمق، تاركة الشعب يترنح في طوابير المخابز، وفي طفح مياه الصرف الصحي، وتبتلع مياه المتوسط شبابه، وهو يحاول الهجرة غير الشرعية، هرباً من الرعاية الحانية لحكوماتنا الرشيدة!!
النقطة الثالثة والأخيرة مسألة تصدير الغاز لإسرائيل بالتحديد، وعداؤنا الذي ينبغي أن يكون أبدياً معها، فلو صدرنا إليها الغاز ستعتمد حياتها ومصانعها علينا، كما سنعتمد بالتالي عليهم، هنا يكون التطبيع الذي يؤدي لإقامة علاقات من نوعية جديدة بين الشعبين المصري والإسرائيلي، علاقات تدور حول المنافع الاقتصادية المتبادلة، لتحل محل علاقات العداء والتوجس وتجييش الجيوش وتبادل التدمير، ولترفرف رايات التنمية والسلام، على قواعد قذائف الشجب والتنديد والاتهامات بعيدة وقصيرة المدى.
ليس بالأمر ذي الأهمية هنا الالتفات إلى وجهة نظر حفنة من الليبراليين ndash;بينهم كاتب هذه السطور- حول أهمية خيار السلام لقضية التنمية بالمنطقة، بعد عقود من الكراهية والحروب، تفاقم فيها التخلف والفقر واستنزاف الدماء، بالطبع في الجانب العربي فقط، كما أنه من غير الوارد الاكتراث بالمصالح الحقيقية للشعب الفلسطيني، الذي دمرته مقولات وتوجهات العروبة، بأكثر مما آذته الصهيونية والإمبريالية المزعومة، فالمهم هنا هو ما يبدو جلياً للعيان، من أن الأغلبية الساحقة من متثاقفينا الأماجد والأشاوس ترفض أن تمد إسرائيل المزعومة بمقومات الحياة، تمهيداً لتحقيق الحلم العربي بإلقائها في البحر، أو ذبح أحفاد القردة والخنازير تقرباً لله بدمائهم، لتخلو الساحة والفضاء العربي لبوم العروبة وغربانها!!
مستنقع الفكر والثقافة في مصر والمنطقة لا يبدو له شطآن وحتى خط الأفق، والكائنات التي تتخبط في أوحاله مصرة على المزيد من الحياة أو الموت غرقاً وفقراً ودماء.. هكذا تبدو الصورة العامة للمراقب الخارجي، فهل هي الصورة الحقيقية بالفعل، أم خلف عناصر الفشل والتدمير عالية الصوت والجلبة، هناك عوامل الحياة تسري من تحت السطح الذي يبدو متعفناً، حيث تغير التكنولوجيا والعولمة كل معالم الحياة والعلاقات والأفكار القديمة، وتستبدلها بأخرى جديدة ومختلفة تماماً عن ميراثنا الذي نتمسك به ظاهرياً من قبيل التقية؟
هل ما نراه من رواج لخطاب الكراهية وصيحات الأشاوس، هو عنفوان العجز ورفض الحداثة، أم هي الارتعاشات الأخيرة لجسد مريض بالحمى، قبل أن يشفى من دائه الوبيل، وينفض عنه كل ما كان، ويعهد به إلى مزابل التاريخ، مستقبلاً عهداً جديداً، يتقدم فيه لتلتقي أياديه مع أيادي جميع الشعوب الساعية للسلام والتنمية، ولصناعة حاضر أفضل، ومستقبل مشرق ومزدهر؟!!
لن يحسم ذلك التساؤل مجادلات المجادلين ولا تحليلات المحللين، فوحدها الأيام هي التي ستحدد إلى أين نسير، وما إذا كنا كائنات قادرة على الحياة، وعلى التأقلم مع متغيراتها، أم أننا نسير حثيثاً نحو الانقراض ولا محيص!!
[email protected]