لا أدري ما الذي يجعلني أكرر ذكرى هذه المرأة المدهشة، وصديق فكر مرموق تزوج من أمريكية فسماها قرة عين، والزواج بالنساء الجميلات القويات هبة ونعمة للنادرين من الرجال. وقرة عين الفارسية كانت فلتة في الزمن الكوني اللامتناهي بين نساء العالمين. كتب عنها الوردي أكثر من ثلاثين صفحة في موسوعته يمكن الرجوع إليها للتمتع بذكراها..
ويحكى أن رجلاً من عقلاء العرب عاصر النبي (ص) عندما أراد الحج وكان هذا قائماً قبل الإسلام جاءه قومه فقالوا له نريد أن ننفرد بك لتحذيرك من أمر خطير.
اعتدل الرجل في جلسته ثم فتح أذنيه فأصغى باهتمام ما هو؟ قالوا هناك رجل اسمه محمد أحذر أن تسمع منه؟ قال لهم ولماذا؟ قالوا له إنه مرتد عن دين قومه وهو يدعو إلى دين جديد. قال لهم وأين الخطر بالنسبة لي؟ قالوا له: إنه ساحر ولا يسمع له أحد إلا سحره فاتبعه وضل سواء السبيل.
ارتعب الرجل فعلاً وخوفاً من كلام هذا الساحر قام ووضع (الكرسف) أي القطن في أذنيه، ثم قام بشعائره في مكة حتى انقضى الموسم.
وقبل الانصراف سمع بحديث الناس عن هذا الرجل الكارزمائي الساحر ثم خاطب نفسه فقال: يا فلان والله إنك رجل مرموق في قومك وإنك رجل عاقل لا يمكن أن يضحك عليك أحد، والأمر ببساطة أن اذهب للرجل واسمع منه، ولسوف تعرف إن كان صادقاً أو محتالاًً.
إنك يا فلان رجل عاقل راشد وبإمكانك أن تفرق بين الأمور فإن سمعت كلاماً صحيحاً أخذت به وإن كان خلاف ذلك رميته ولا تبالي.
تقول الرواية إن الرجل نزع القطن من أذنيه ثم ذهب فاجتمع بهذا الصابيء. فلما سمع خشع قلبه وقال يا محمد امدد يدك أبايعك. وعندما رجع إلى قومه قالوا كنا في مصيبة فأصبحت اثنتين لأن الرجل بدأ يبشر بدين محمد. ولكنهم لم يأخذوه إلى محاكم الأفغان أنه يبشر بدين جديد.
هذا الصحابي نزع الكرسف من أذنيه وسمح لمنافذ الفهم أن تستقبل موجات الفكر فتغير.
ويروى عن حسن البنا أن الملك فاروق كان يتجنب الاجتماع به لأن من حوله كان يحذره منه: إنك إن اجتمعت به سحرك فآمنت بما يدعو إليه. وعندما يصف (مالك بن نبي) الرجل في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) يروي طرفاً من سحر الرجل: (فلكي يتم تغيير الفرد لم يستخدم ذلك الزعيم سوى الآية القرآنية، ولكنه كان يستخدمها في نفس الظروف النفسية التي كان يستخدمها النبي ص وصحابته من بعده..وهذا هو السر كله: أن تستخدم الآية كأنها فكرة موحاة لا فكرة محررة مكتوبةhellip; وإذا كان قد أتيح لذلك الزعيم أن يؤثر تأثيرا عميقا في سامعيه فما ذلك إلا لأنه لم يكن يفسر القرآن بل كان يوحيه إلى الضمائر التي يزلزل كيانها فالقرآن لم يكن على شفتيه وثيقة باردة أو قانونا محررا بل كان يتفجر كلاما حيا وضوء آخذا يتنزل من السماء فيضيء ويهدي ومنبعا للطاقة يكهرب إرادة الجموع. ولم يكن الرجل يتحدث عن ذات الله كما صورها علم الكلام أي عن الله العقلي بل كان يتحدث عن الله الفعال لما يريد.. فالحقيقة القرآنية تتجلى بأثرها المباشر على الضمير وبتأثيرها في الناسي والأشياء..).
ويروى (الوردي) عن المرأة المذهلة (قرة العين) فيقول إنها عاشت في النصف الأول من القرن التاسع عشر، وأصلها من (قزوين) جمعت بين أربع صفات: الجمال الفاتن والذكاء المفرط والشخصية القوية واللسان الفصيح، وهي صفات لا ينال المرء واحدة منها.
ويصفها أخوها:(أننا جميعاً ما كنا نقدر أن نتكلم في حضرتها لأن علمها كان يرعبنا وإذا تصادف وتكلمنا في مسألة فإنها كانت تتكلم بكل وضوح وإتقان على البداهة حتى نعلم أننا أخطأنا السبيل ونتركها ونحن متحيرون) هذه المرأة النارية الساحرة أصبحت حديث أهل طهران؛ فاجتمع الرجال والنساء على حديثها الساحر، ولم يكن يسمعها أحد إلا زلزل وارتج وبكى من التأثر، وكان مصيرها أن قتلت بوضعها: (في فوهة مدفع وأطلق عليها قنبلة مزقتها إربا إربا)؟؟
ويقال أنها: (خنقت بمنديل من الحرير قدمته بنفسها إلى جلادها ثم أنزلت في بئر وهيل عليها التراب) وليس لها قبر.
ووصف (الكونت دي غوبينو) في كتابه (الأديان والفلسفات في آسيا الوسطى) بقوله:
(كان الكثير من الذين عرفوها وسمعوها في أوقات مختلفة من حياتها يذكرون لي دائماً أنها فضلاً عما اشتهرت به من العلم والغزارة في الخطب فإن إلقاءها كان من السهل الممتنع، وكان الناس أثناء تكلمها يشعرون باهتزاز وتأثير إلى أعماق قلوبهم مفعمين بالإعجاب، وتنهمر دموعهم من الآماق).
ويعلق على هذه الشخصية النادرة عالم الاجتماع العراقي (الوردي) فيقول: (إنها عبقرية جاءت في غير زمانها، أو هي سبقت زمانها بمائة سنة على أقل تقدير؛ فهي لو كانت قد نشأت في عصرنا هذا وفي مجتمع متقدم حضاريا لكان لها شأن آخر، وربما كانت أعظم امرأة في القرن العشرين). وبغض النظر عن توجهاتها الفكرية فهي كانت امرأة تجدد بدون توقف، ولو امتد بها العمر لربما غيرت أكثر في آرائها ـ كما فعل مالكولم إكس الأسود، فأناس من هذا الطراز من العبقرية لا يقفون عند خرافة وشخص، بل يحرقون في طريقهم كل الخرافات، ويتجاوزون الأشخاص والمدارس، ليقنصوا طرفا من الحقيقة بعد حين، ويشقوا الطريق إلى منهج جديد ومدرسة مستحدثة. عليها رحمة الله في ذكراها وجعلها نبراسا لكل النساء الثائرات المميزات في التاريخ مثل روزا باركس وجان دارك والعدوية وسكينة بنت الحسين والزباء وحتشبسوت..