مرت الذكرى الواحدة والاربعين على نكسة حزيران بدون ان تثير أي احساس عميق بالهزيمة أو تساعد على تطوير وعي نقدي جديد من الممكن ان يفرز حركة تحرر تدخلنا الى الحداثة من أبوابها الامامية.
وكان بعض العرب اعتقد بان مناخ الستينات من القرن الماضي افرز حركة تحرر عربية ذات انجازات هامة على مستوى تحديث المجتمع اجتماعيا واقتصاديا وسياسيا، وعلى مستوى تحولات ثورية اخذت منحى تقويضيا وبنائيا معا. غير ان ابرز مقومات البنية الفوقية التي اعاقت حركة التحرر العربي، هي النظم السياسية الاستبدادية الشمولية والمؤسسات الدينية ونوع الفكر الديني اللاعقلاني، الذي شكل معقلا من معاقل توليد قيم الجهل والتخلف والتبعية والجبرية من جهة، واعاق انتشار القيم التحديثية والتنويرية وافكار التعددية والديمقراطية من جهة اخرى، ووقف امام كل ما يتعلق بالعلم الحديث وتقنياته ومناهجه ومشكلاته.
لقد تنامى الفكر العروبي القومي والاشتراكي والليبرالي بعد الحرب العالمية الثانية مع بدايات تنامي الطبقة الوسطى وانتشار الوعي الاجتماعي ـ السياسي والثقافي، الذي ولد أملا وتفاؤلا بمستقبل افضل. غير ان انفجار نكبة فلسطين واقامة الدولة الاسرائيلية على انقاض الوطن الفلسطيني، أثار الاحساس بخيبة الامل، وحول الوعي السياسي النقدي الى تيار قوي، واخذ المفكرون يبحثون في طبيعة النكبة وعجز العرب عن مواجهة اسرائيل ومحاولة التعرف عن اسبابها وكيفية الخروج منها.
ومع كل تلك الارهاصات التي افرزتها تلك المرحلة لم تنتج سوى انقلابات عسكرية، والتي مهدت لصعود الجيش الى السلطة وعسكرة المجتمع واستخدام القوة والقمع والقهر لضرب حركات التحرر الوطنية والقومية ذات الاهداف التحديثية التي تريد تغيير البنى الفوقية، الفكرية والقيمية والثقافية، وكذلك البنى التحتية، التي تهدف الى تحديث الاقتصاد والعلم والتقنية، واخذت تعمل بالتدريج على اضعاف الخطاب النقدي، الذي ساعد مع غيره من اسباب، على هزيمة حزيران عام 1967 التي صدمت العرب بنتائجها المادية والمعنوية الوخيمة.
والواقع كانت نكسة حزيران حدث واقعي جسد صورة وعينا المعكوس بالواقع العربي ـ واقع الهزيمة، تحولت فيه العقلانية الى اسطورة نتغنى بسحرها، والديمقراطية الى افق بعيد نحلم بها، والعلم والتقنية الى سحر نتمنى التعرف عليه وتحقيقه وفك الغازه. انها صورة درامية لآيديولوجيا أبويةـ بطريركية شمولية طالما تشدقنا بها في خطاباتنا العاطفية.
ومع ذلك، فان نكسة حزيران، من جهة أخرى، شكلت فيما بعد بدايات وعي سياسي وثقافي وخطاب نقدي ادرك العرب من خلاله تفوق اسرائيل، ليس عسكريا فحسب، وانما علميا وتكنولوجيا وتنظيما اجتماعيا، وعكست، في ذات الوقت، رمزا ملموسا لتخلفنا وتأخرنا التاريخي، وكذلك تخلف وعينا بانفسنا وبالتاريخ. وبهذا وضع خطاب ما بعد الهزيمة اشكالية الخطاب الفكري العربي ضمن هذه اللحظة من الوعي بالذات وبالآخر وتعبيرا عن هذه الازمة ومحاولة لتجاوزها.
وهكذا كانت بدايات تحدي الانظمة العربية الشمولية والتساؤل عن شرعيتها في محاولة لتأسيس حركة تقدمية تناهض الايديولوجيات الاستبدادية والحركات الاصولية المتطرفة وفي ذات الوقت، تسليط الاضواء على الواقع المجتمعي والكشف عن اسباب عجزه ونكوصه وفضح ممارسات التلبيس والتزوير فيه. وكان من مظاهر هذه الحركة النقدية تطور النقد الادبي والثقافي والاجتماعي والحضاري، وبصورة خاصة نقد النظام الاستبدادي والنظام الابوي- البطريركي والفكر الذي يقف ورائهما، كما ظهر ذلك في كتابات هشام شرابي في نقد النظام الأبوي-البطريركي وصادق جلال العظم في النقد الديني والنقد الذاتي وعبد الله العروي في نقد الآيديولوجيا العربية ومحمد اركون في نقد الفكر الاسلامي وغيرهم.
وقد سبق صادق جلال العظم في كتابه الهام quot;النقد الذاتي للهزيمةquot; غيره من المفكرين، محللا اسباب هزيمة حزيران وابعادها، منتقدا بجرأة، الفكر العربي المثالي بصورة عامة والفكر الديني بصورة خاصة، في محاولة لتشخيص مواطن الضعف والخلل في بنية الفكر العربي وامكانيات الخروج من حالات القهر والعجز والنكوص، مرجعا اسباب الهزيمة الى ثلاثة اسباب رئيسية يمكن ايجازها في الولاءات التقليدية وسيطرة الفكر الغيبي والاستخفاف بقوة العدو. كما ربط هذه الاسباب بخصائص الشخصية العربية ونمط السلوك الاجتماعي والعقلية التي ما تزال تنتمي الى طور البداوة والزراعة والتعلق بالغيبيات.
لقد كشفت هزيمة حزيران النقاب عن هشاشة المشروع النهضوي التحديثي الذي اعتمدت عليه حركة التحرر العربية وابعاده وتمركزه حول شخصية quot;الكارزماquot;، البطل الذي حالما انهزم، انكسر العرب وهزموا معه. وقد نزلت الهزيمة على رؤوس العرب كالصاعقة، واحدثت ردود افعال معاكسة، فقد شهدت المنطقة مدا سياسيا تمحور حول اطروحات تجديد الماركسية والدعوة الى الثورة وحرب التحرير الشعبية من جهة، مثلما انتجت فشلا مستمرا منيت بها الحركات القومية والاشتراكية والليبرالية وكذلك المقاومة الفلسطينية من جهة اخرى، مما افسح المجال لقوى التيار الديني، وبخاصة السلفي الراديكالي، الى ملئ الفراغ السياسي والثقافي وتوظيف الدين والاسلام تحديدا في عمليات حماية النفس من اثار الهزيمة.
كما ان الفراغ السياسي والايديولوجي الذي احدثته هزيمة حزيران وما صاحبها من انهيارات فكرية وآيديولوجية، وكذلك ردة الفعل ضد التحديث والقيم التي جلبتها بدايات الحداثة معها، وفي ذات الوقت، انتصار الثورة الاسلامية في ايران عام 1979، قوى التيار الديني ووسعه وبصورة خاصة الراديكالي منه، الذي احتضنته الشرائح والطبقات الاجتماعية المسحوقة وغير الواعية في العالم العربي والاسلامي.
يرى العظم، بأن صورتنا عن ذواتنا هي اننا صناع التاريخ والغير يخضع للتاريخ الذي نصنعه، وليس نحن الذي نخضع لتاريخ هو من صنع الآخر. ولذلك فمن الصعب على العربي المسلم ان يجد نفسه على هامش التاريخ الحديث، ولهذا، فان سايكولوجيا هزيمة حزيران 1967 ضربتنا نفسيا ونرجسيا ضربة يمكن مقارنتها بالضربة التي احدثها انتصار حملة نابليون على مصر. وان الذهول الذي تكشف عن الحرب كان هائلا وعميقا وترك جرحا نرجسيا عميقا لم يلتئم حتى اليوم.!
وفي غمرة الانتكاسات المتتالية التي اعقبت الهزيمة، ظهرت ردود افعال متباينة تجاه النظريات النقدية الحديثة، حيث بدأ بعض النقاد العرب ينادون بضرورة تأصيل النقد والرجوع الى التراث والخصوصية الثقافية، وبدأ الحديث عن اشكالية الهوية والعودة بالوعي العربي الى مقولات الماضي والتغني بالتفوق الروحي والفكري والانساني للحضارة الاسلامية التي تفوقت على الحضارة المادية في الغرب ومجتمعاته المادية الاستهلاكية، بهدف التخلي عن الآفاق والمقولات الجديدة التي طرحتها النهضة العربية في العصر الحديث.
ومن جهة اخرى اخذت الحركة النقدية تقوى منذ الثمانينات في مفاهيمها واساليبها ومناهجها وشعاراتها وذلك لعدم وجود منهج تفكيكي وتحليلي نقدي يتناول قضايا المجتمع في ابعاده الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية ومعالجة القضايا التي تمس الذهنية العربية التي انتجت هذه الازمة وتعيد انتاجها من جديد ولكن باشكال مختلفة، مثلما انتجت عقما في الايديولوجيا وعجزا في الاحزاب والحركات السياسية عن احداث التغيير البنيوي الجذري المطلوب، وذلك بسبب فقدانها الوعي الاجتماعي الذاتي المستقل والحس النقدي وكذلك عدم قدرتها على مجابهة الواقع وعدم التمييز بين التفكير النظري وبين ممارسته في الحياة العملية. كما يعود ذلك الى التشبث بالماضي الذي يمنع الفرد من رؤية الحاضر رؤية نقدية ثاقبة واستشراف المستقبل بنظرة تفاؤلية، مثلما يمنع أية امكانية للتواصل والحوار الفكري مع الآخر المختلف. كل هذه القضايا المصيرية افقدت الخطاب العربي القدرة على النقد والنقد الذاتي الذي جعل الفرد العربي عاجزا عن التمييز بين السلوك العقلاني الرشيد وغيره.