رشحت مصر السيد فاروق حسني لمنصب مدير عام اليونسكو عندما يشغر في العام القادم.
إن منظمة اليونسكو هي أولا، منظمة لتربية الجيل الجديد بأفكار التقدم، والتسامح، واستقلالية الرأي، وهي تدرج في ميثاقها التأسيسي أهداف صيانة السلم، ومكافحة التمييز بكل أشكاله، والدفاع عن حرية الرأي والتعبير، وعن الحرية الدينية، وهي بذلك تلتقي مع الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وميثاق الأمم المتحدة. يضاف أن اليونسكو اعتمدت عشرات الاتفاقيات، والتوصيات الدولية في العمل لحماية تلك القيم، حسب نطاق تخصصاتها، لاسيما الحرية الدينية، والمساواة بين الجنسين، وحرية الرأي والتعبير.
إننا إذ نورد هذه المقدمة الخاطفة جدا فلكي نربطها بأحداث خطيرة جرت، وتجري، في مصر ضد حرية الرأي، وضد الأقباط.
لقد كانت مصر في طليعة عصر النهضة العربية الحديثة منذ أواخر القرن التاسع عشر. إنها أنجبت، أو استضافت العشرات والعشرات من المفكرين الأحرار، والأدباء، والعلماء، ودعاة الإصلاح. إن مصر تذكرنا بأحمد لطفي السيد، وشبلي شميل، وقاسم أمين، ومنصور فهمي، وسلامة موسى، وطه حسين، وعلي عبد الرازق، ونجيب محفوظ، وغيرهم، من أبطال حرية الرأي، ومن المبدعين، ودعاة الفكر العلمي وناشريه، كما كانت تفعل مجلة المقتطف ليعقوب صروف.
إننا نسأل: ماذا دهى مصر العزيزة نفسها منذ العقود الأخيرة من السنين؟
في العشرينات وقعت حالات محاربة مشايخ الدين لكتاب طه حسين quot;في الشعر الجاهليquot; وكتاب علي عبد الرازق quot;الإسلام وأصول الحكم، وأجبر المشايخ منصور فهمي على الابتعاد عن أطروحته الجامعية حول المرأة في الإسلام. كانت تلك حالات معدودة، ولكن مع أواخر الثلاثينات الماضية والأربعينات ندرت تلك الحالات، ولم نسمع أن مرجعا دينيا قد جرأ حتى على إدانة الأفلام الاستعراضية الأجنبية والمصرية، أو ضد رقصات تحية كاريوكا وزميلاتها.
إن الوضع قد تحول تحولا مأساويا مع حركة خميني، وحرب أفغانستان عندما كانت أمريكا تساعد المقاتلين الإسلاميين في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي، وكذلك زمن الراحل أنور السادات، الذي شجع الإسلاميين في مواجهة اليسار والناصريين.
إن غزو الفكر والتأثير الإخواني للمجتمع المصري أدى لتفاقم تدخل رجال الدين في شؤون التعليم، الفكر، والفن، والإبداع، ونتاج السينما، والسيد فاروق حسني يتحمل قسطاً من المسئولية في هذا الشأن بصفته وزير الثقافة، وتشكيله لجنة رقابة يغلب فيها المشايخ، بل وفي العقود الأخيرة تحول القضاء نفسه في بعض الأحيان لمواقع المتطرفين، والفتاوى التكفيرية كما حدث مثلا لحامد نصر أبو زيد. لقد أدت فتاوى المشايخ لمحاولة اغتيال مفخرة مصر، الروائي الكبير نجيب محفوظ، وازداد تدخل الأزهر في إجازة أو حظر الكتب، كما حدث مثلا مع رواية quot;وليمة لأعشاب البحرquot; لحيدر حيدر، والتي أثار المشايخ ضدها طلبة الأزهر بعد عشرين سنة من نشرها، وقد ثبت أن لا أي واحد من الطلبة قد قرأ الرواية، بل ومعظمهم لم يروا حتى الغلاف. واليوم تأتينا أخبار مفجعة جديدة، وهي حظر كتاب جمال البنا، وإعدام مكتبة مدبولي لكتابين للدكتورة نوال السعداوي، فيا للفضيحة.
إن هذه المذبحة ضد الفكر والمبدعين تجري يدا بيد مع استمرار اضطهاد الأقباط، وآخر ذلك تدمير دير، وقتل، وخطف رهبان على أيدي بدو مسلمين، متأثرين بدعايات الإسلاميين، ومع أن المسؤولين المحليين، وكالعادة، ينسبون الجريمة إلى quot;خصام الجيرانquot;، فإن البدو أنفسهم كانوا يصرخون: أن لا مسيحيون بيننا.
ليست هذا هي الجريمة الأولى التي يتعرض لها الأقباط، ففي 1999 قتل عشرون قبطيا قرب أسيوط، والمنطقة التي هوجم فيها الدير اليوم هي نفس المنطقة التي ضربها الإرهاب الإسلامي عام 1990. فماذا فعلت حكومة مصر لوقف هذه المذابح؟ أين إجراءاتها الفعالة؟ كم من المعتدين تمت محاكمتهم؟.
إن الحكومة المصرية مسئولة عن حماية الحرية الدينية، والأقليات الدينية، وأمن مواطنيها في مصر، التي كانت البلد الذي رفع شعار: quot;الدين لله والوطن للجميعquot; أوائل القرن العشرين، كما أن نظاما غير إسلامي كالنظام المصري يجب أن يقف بوجه تدخل المشايخ في شؤون التعليم، والثقافة، والنشر، فمصر، كما قلنا، موقعة على الإعلان الدولي لحقوق الإنسان، وعلى ميثاق اليونسكو، واتفاقياتها، وتوصياتها.
إن من حقنا أن نسأل: بماذا سيجيب الأستاذ حسني، على فرض انتخابه مديرا عاما لليونسكو، إذا أثيرت الحالات المذكورة، ومثيلاتها؟! بماذا سيجيب إن تقدم المفكرون، والمبدعون، الضحايا بشكاوى لليونسكو، وإن فعلت المراجع القبطية الشيء نفسه؟! هل سوف يصمت، وهو المطلوب منه اتخاذ موقف؟؟ أم سيدين؟ أم سيبرر؟
[عنوان دموع المسيحيين مستعار من مقال الفيجارو الفرنسية بعد خطف واغتيال مطران الموصل]