الأمور العظيمة الملهمة
عندما تدلهم الخطوب، وتحلك الظلمات، ويتراجع الشعور إلى زاوية اليأس، فيحس الإنسان بالعدمية، ينعش شعوره أمور بذاتها؛ فتلهمه معنى المقدس، وأن في داخله من روح الله الذي يعلم السر وأخفى، وأن للحياة معنى. وأن الأمل في الحياة عظيم. وأن هناك لحظات خالدات منعشات في الحياة.
وأنا أكتشف هذه الجزر، في محيط اللامعنى والعبث والروتين والملل والكآبة بين الحين والآخر.
ومنها أربع أمور: هي (اكتشاف العلاقات الخفية في العلم) وانفجار الشعور الأعلى من عالم ما فوق الشعور.
ومنها الحنين الغامض واللذيذ والمنعش من (ذكريات عالم الطفولة).
ومنها (التعرف على شخصيات) يذكرونك ما نسيت، ويعلمونك ما جهلت فتجلس بين أيديهم للتعلم؛ فيمنحك أحدهم العظمة ومعنى الحياة. وأن هناك عظمة في خلقنا.
وكان من هؤلاء زوجتي القديسة ليلى سعيد، التي رجعت إلى الله، فهو فرح بها، رضي عنها ورضيت عنه..
وهو ما حصل لجلال الدين الرومي عندما احتك بشمس الدين التبريزي فقال عنه إقبال: صير الرومي طيني جوهرا.. من غباري شاد كونا آخر.
ومنها ذلك الانسياب المدهش من (عالم الموسيقى)، فيتذكر المرء الضابط الفرنسي، الذي كان في صالة يعلوها الصمت، وبدأ العزف للسيمفونية الخامسة لبيتهوفن؛ فانتصب على عقبيه، وصاح بدون أن يشعر: لقد جاء الإمبراطور.
إنها لحظات العظمة والتألق والمعنى وانفلاق الإصباح.
فأما (اكتشاف العلاقات الخفية) فهو شعور مقدس، يدخل القشعريرة إلى الجلد مثل الكهرباء، كما يقول القرآن تقشعر جلودهم من خشية الله ثم تلين قلوبهم إلى ذكره.
وهو ما حصل مع (أوجست كيكول) وهم المحتار في تفسير ارتباط ذرات الكربون؛ فجاءته في المنام حية تسعى، ثم التفت على نفسها؛ فالتقمت ذيلها بفمها، فنهض مرعوبا من منامه، وصاح إنها الحلقة البنزينية، أس الحياة في الكيمياء العضوية.
ومن تلك اللحظات (شامبليون) وهو يغوص في أسرار اللغة الهيروغليفية، مثل ممرات الهرم، حتى كانت تلك الليلة، حينما انكشف الغطاء عن اللغة، فنطقت؛ فقام كهنة آمون فجأة، وهم يضحكون ويبكون، وهم سامدون، يتلون قصص التاريخ، وما جرى في سالف الأيام.
ومنها تلك اللحظات العجيبة، التي وصفها ابن خلدون في المقدمة، حين اهتدى إلى قوانين اجتماع البشر، وسماها تلك الحكم القريبة المحجوبة. والإنسان لا يرى بعينيه، وإنما بدماغه، فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور، ولا يسمع بأذنه وإنما تعيها أذن واعية، ومن ألقى السمع وهو شهيد.
وأما (ذكريات الطفولة) فهي كما قال المخرج السوري عبد الرحمن آل رشي إن الطفولة هي العودة إلى الجنة، حيث لا مسئولية ولا حزن، وإنما استغراق في اللعب، وطول في الزمن، وكأنه لانهاية له، وإدراك حاد للأشياء، وذاكرة ملتمعة متقدة تلتقط الأشياء فلا تضيع.
ومع كل تقدم في السن، تتنكس المفاصل وتتشوش الرؤية فالبصر أعشى، وتضمحل الذاكرة القريبة، في الوقت الذي تزداد الذاكرة البعيدة مضاء وحدة وتألقا ووضوحا وكأنها اللحظة بين يديك.
وهنا تكتشف النفس قصر الزمن، ومضاء العمر، وذهاب الشباب، الذي تركته خلف ظهرها حافلا بالذكريات المرة والحلوة.
وهنا تحس الروح أنها وقت الإنابة إلى دار القرار، وأن الحياة الدنيا متاع الغرور.
ويكتشف الشيخ تلك المتعة المتدفقة، من ينبوع الشباب، واستقبال الحياة وكأنها الخلد لا نهاية لها.
دخل علي في العيادة مريض مصاب بالفشل الكلوي قلت له كم عمرك قال خمسون. قلت شباب ما شاء الله. نظر إلي وقال دكتور الشباب ومضة وتذهب وفقس بأصابعه..
ثم أردف ولا يحس بها الشباب إلا بعد زوالها ومواجهته الكهولة..
وأقول كثيرا لبناتي الشابات: الحياة قصيرة، فلا تقصروها بالنكد، وتمتعوا بالشباب والصحة والنشاط والحيوية.
ويبدو أنه مع الشيخوخة يفرز الدماغ من المواد، ما تميل بصاحبها إلى الكآبة.
أو يحصل تشظي وانشطار وتفسخ في شبكة الخلايا العصبية، كما حصل مع نيتشه وكانط؛ فأما الأول فانتهى إلى الجنون، فكان يقول لأخته التي تقرأ له أفكاره القديمة: لقد كنت أكتب مثل هذا؟
أو كانط الذي دخل مرض الزهايمر، فلم يعد يعرف أقرب الناس إليه، وهو الذي كتب نقد العقل الخالص؟
فإذا نظر المرء في المرآة، رأى نفسه وقد علاه الشيب، وتجعد الجلد، واختفى الجمال، وكبرت الآذان وتضخمت وكأنها أقراص مدلاة؟ ونما من داخلها شعر كثيف، وتحكي مفاصله من طقطقة أصواتها أن المفاصل يبست، وأن رحلة الاندحار بدأت، وأن موجة الاندثار عمت وطمت.
ومن نبع (ذكريات الطفولة) تتدفق الذكريات الجميلة المنعشة، فتقول أن الحياة قابلة للارتداد، وأن الآخرة هي دار القرار، حيث الينبوع المتجدد للشباب.
وأما (الشخصيات العظيمة) ففي حياتي أناس خالدون، أعطوني معنى الحياة، وأن هناك إمكانية للارتفاع، إلى عتبات راقية، تلهم معنى المقدس والرائع المتجدد في الحياة.
منهم جودت سعيد الذي وصفته في لحظات الاعتقال في الحلبوني معي لصالح المخابرات العامة فرع 273 وما أكثرها من فروع جهنمية، وهو الذي أكرمني ورفعني حين زوجني الطاهرة المطهرة ليلى سعيد أخته..
وفي مقدمة كتابي النقد الذاتي تقدمت بإهداء الكتاب إلى العائلة الرائعة آل سعيد إلى جودت من زرع عندي بذور العلم والسلم، وليلى القديسة، التي باركت كل تطور ورفعة في حياتي بتواضع وعفة وزهد وقلة، وسعدية التي أحيت الجدل العقلي في ساعات ممتعة من الوميض العقلي، ففي قلبي لبيتها المتواضع في بير عجم حنين.
وأستطيع أن أتصور الصحابة وهم بين يدي رسول الله ص يقولون: إذا كنا عندك رأينا الملائكة، فإذا خرجنا ألهتنا أموالنا وأهلونا.
وأستطيع أن أتصورهم وهم يبايعون الرسول تحت الشجرة، وينزل القرآن يسجل اللحظة التاريخية.
ويبدو أن عند البشر هذه الميزة من التأثر بالناس، ولكنها خطيرة لأنها قد تعطل ملكة النقد.
ومن المهم الانتقال مثل تيار الكهرباء المتناوب بين العظمة والعادي، وبين البشر العظام وتصورهم أنهم بشر ممن خلق، يرتفعون في زاوية ويهبطون في أخرى، وما ترى في خلق الرحمن من تفاوت.
والألباني المحدث كان حجة وصاعقة في علم الحديث ولكن لم يكن يفقه في السياسة حرفا.
وأتصور حواريي المسيح من حوله، وهم في أزمة مع الكتبة والفريسيين، وأتصور العذابات والسجون لأناس، يدخلون منعطفا من المحنة المشتركة، وما ذا تعني لهم؟ وكيف توحد أخوتهم مثل صب الذهب في قوالب متراصة؟!
وأما (الموسيقى) فهي ذلك الانسياب المبدع، وكأن السماء تتفتح فينزل المعنى، وتنتعش الروح.
وبعض أنواع الموسيقى تدخل الخشوع في المفاصل، وأفهم لماذا أدخلت المسيحية الموسيقى إلى الكنائس، كما أتفهم إلهام الحضارة الأوربية من موسيقى موتزارت وباخ وبيتهوفن؛ فنهضة الحضارة كاملة، من كل زاوية وفي كل عتبة ومستوى.
وحين تصعد الروح، تنحت الكلمة المتألقة، من صوان الصخر، وتنزل الموسيقى مثل مطر، فإن لم يكن وابل فطل.
واستقبل الرسول عند دخوله المدينة، بفرقة موسيقية، تتهادى على أغنية جميلة، أن البدر طلع، وأن القمر أطل، وأن شمس الحقيقة سطعت، وأفل نجم الوثن.
طلع البدر في الظلمات، من ثنيات الجبال الحالكات، يطل على جمهور عثر على بوصلته التاريخية فهي تقوده في معابر التاريخ.