تختلجني أثناء بث محاولاتي الفكرية آلالام وآمال، فكثيرا ما ارى طيف مخرج يحلّق بي في سماء فكر وجودي، لا ألبث غير بعيد حتى أتعثر في وعورة الطريق.
عويصةٌ هي معادلة الانسان الحرّ في مجتمع quot;تياراتquot; كلٌّ يغني فيه على ليلاه؛ أسيرٌ هو الانسان في عالم يحكمه ثالوث العنف والسخف والمادة؛ قلق هو الكائن الانساني المفكرّ، وربما يرجع فشل الفكر الانساني ونقده الى اعتبار الكون بكل مقوماته وعناصره ماهية منفصلة عنه فيعود عندها تفكيره خاسئًا وهو حسير.
تنهال عليّ يوميًّا عشرات المقالات والرسائل والاراء والانتقادات من كُتّاب كُثر، كلّ يقف خلف متراسه الفكري، ملقيًا بالاتهامات على الآخر، أما مفندًّا او شارحًا أو ناقِدًا hellip;
فهذا كاتب جعل من quot;الليبراليةquot; متراسًا لتصنيف الاخرين محوّلا الحرية الى شعار فارغ من محتواه فصحّ فيه وصف جبران quot; طالما رأيتكم ساجدين...تعبدون حريتكمquot;؛ وذاك كاتب quot;اسلاميquot; يستجلب النصوص اللاهوتية كلها ليقذف بها على القارئ مدخلا الكون في خرم عقيدته، وهذا quot;يساري quot; لا هم له سوى إظهار ضعف اليمين وثغراته؛ وآخر quot;علمانيquot; جعل من علمانيته عنصرية ليستبعد بها الاخر فارضًا على الجميع رؤيته متدخلا في شعارات البشر وحتى طريقة لبسهم وعيشهم!...
كل ذلك يمارس تحت شعار quot;النقدquot; حيث يعمل quot;المفكرّ المأجورquot; وحتى غير المأجور، على وضع الأطر الفكرية التي تُشرِّع سفك دماء quot;الآخرquot;، أو تستبعده على الأقل، وتضعه في خانة الابعاد والعزل أو تضعه ضمن دائرة التصنيف الموجودة في المخيال العنصري.
فما هو quot;النقدquot; واين نحن منه؟؟؟
النقاد يحاكمون عادة انتاج الانسان سواء كان هذا النتاج فكري او عملي او فني...ولكن غالبًا ما ينطلق الناقد من خلفية وارضية فكرية تكون بالنسبة له معيارالحائق ممارسًا بذلك عملية مزدوجة الاولى تتمثل في الادعاء بامتلاك الحقيقة، والثانية تظهر من خلال إطلاق الاحكام على الآخرين.
وهنا نتساءل: هل يصح باسم الحقيقة ان نحاسب نتاج الانسان؟؟ او نحاسب الناقد ونحاكم النقد ولو كان ذلك يمارس تحت شريعة معينة او نظام يدعي انه سلطة؟؟ وهل يمكن ان يكون النقد فوق جميع quot;السلطاتquot; بما فيها quot;الحقيقةquot;؟؟؟
وهل توجد quot;حقيقة quot; مطلقة بالكامل؟؟ أم ان الحقائق ترتبط بواقع معين، فتكون هي حقيقة quot; بالنسبة الىquot; أي حقيقة تنتمي الى مستوى محدد من مستويات الواقع؟؟؟
النتيجة التي يمكن الخروج منها بعد هذه التساؤلات: انّ معظم المقالات النقدية لا تخرج عن الاطار المجتمعي او المعرفي او الأخلاقي او العقائدي المؤدلج!
لذلك نجد ان منتقدي الأيديولوجيات غالبًا ما يختزلونها في المحور البراغماتي ويضعونها في خانة quot;المصالح quot; سواء كانت هذه المصالح لها دلائل تدلّ عليها او كانت quot;مصالحquot; مرسلة عن دليل.
فمأزق النقد الفكري في العالم العربي يتجلى في كونه مشحون بالخلفيات والمواقف المسبقة والاحكام المتخذة سلفًا،الامر الذي يرمي بنا في مرحلة تعود الى ثلاثمائة سنة خلت تلك المرحلة التي لا تتجاوز القرن السابع عشر او الثامن عشر في أحسن الأحوال، لان النقد المطروح دائمًا هو نقد quot;عقائديquot; بامتياز يحاول ان يستجلب نمطا دياليكتيكيًّا جدليًّا عقيمًا، لذلك تنصبّ الردود في الدوامة نفسها مما يعيد انتاج خطاب اكثر عقمًا منه.
فالنقد كعملية يجب ان لا ترتبط بنوايا الانسان الصادرة عنه وموقفه الاجتماعي والسياسي والايديولوجي والقدرات الاخرى والمهارات التي يتحلى بها.
اشكالية النقد الايديولوجي واستراتيجية التفكيك:
وتتمحور اشكالية النقد الدائر في اطار quot;الايديولوجية quot; انه يجعل الناقد في حدّ ذاته quot;ضحية مسكينquot;، فهو لا يمتلك آلية تفكيك النقد الذي يحكمه هو ويحكم مرتكزات فكره التي ينطلق منها، فكيف ان توجه بالنقد للآخرين؟!
أن النقد العقائدي هو في حقيقته quot;نقضquot; لانه كليّاني لا يكتفي بحشر الفرد ضمن علبة فكرية، بل يريد ان يحشر سائر سكان الكوكب الارضي معه بها، ويطلب منهم أجمعين ان يطلوا الى العالم من خلالها، ويريد ان يمحي الفروقات جميعها ويدخلها في مفرداته.
وفي غابة الافكار تلك التي نحيا في أتون جحيمها، و بكثير من المحبة والصراحة أقول: إن النقد في واقعنا الفكري لم يتمثل الفكر كحركة تتجاوز ضيق أحوالنا الاجتماعية و تصرفاتنا الشخصية الى أفق يتجاوزنا بكل ابعاده، إن الفكر كحركة ينبغي ان تعبر بالكائن الانساني من quot;أنويتهquot; بكل مستوياتها الى quot; الكونيةquot; بوصفها حركة تتمثل حركة الوجود في كليته.
فالفكر عندما يكون ايقاعًا وجوديًّا يختفي معه البعد الزماني والمكاني في آن، لانه يكون عندها هو المحدد لوجود كل ارادة اجتماعية، فليست أفكارنا الا صدى لايقاع الوجود نفسه
عندها لا يكون النقد متراسًا او سياجًا نبنيه في وجه نصٍّ معين او مفكر بشخصه، لاننا ببساطة لا نريد ان نقابل quot;حقائق quot; بquot;حقائقquot;، ولا نريد ادعاء quot;تكذيبquot; او تصديق quot; لموقف فكري او خطاب بعينه، فجلّ ما نقوم به هو quot;خروج عن ذواتنا لنكتشف من خلاله اللامفكر فيه في فكرنا ونفضح ذواتنا ونقوض اركان منطقنا ونحلل لا شعورنا ولا وعينا انه quot;النقد من الباطنquot; ان كان هناك quot;باطنquot;!
الموقف التفكيكي هو اننا لا ننفي الحقائق ولا نثبتها، بحيث تتحول المنظومة من quot;الثبات quot; الى quot;الحركةquot; ومن quot;الثنائياتquot; الى quot;اللامتناهيات quot; ومن quot; الموقف quot; الى quot; quot;الانفتاحquot; ومن quot;التياريةquot; الى التعددية بوصفها وحدة منفتحة على الوجود.
لقد حُكمنا وقتا طويلا بالمنطق الأرسطي الذي اوقعنا في فخ quot;العقل الثابتquot; والثنائيات الضدّية، ورمى بنا في دوامة توتر دائم مستديم؛ ان استرتيجية تفكيك الخطاب تتطلب الخروج من المواقع والمتاريس، و تعني انه لا يوجد تمايز بين نص ونص آخر، فالامر لا يتعلق بتفكيك الخطاب quot;الاسلاميquot; من موقع quot; علمانيquot; ولا رجم نص quot;رجعيquot; من موقع quot;تقدميquot;، ولا تفكيك خطاب quot;يساريquot; من زاوية quot;يمينيةquot;،....
فالتفكيك النقدي يطال كل نص بما فيها النقد نفسه، ومقومات هذا التفكيك قائمة في نسيج كل نص، يقول دريدا مميزا بين النقد والتفكيك النقدي:quot; النقد يعمل دائما وفق ما سيتخذه من أحكام او ما سينبني عليه من قرارات فيما بعد، هو يعمل عن طريق المحاكمة. بيد أن التفكيك هو ايضًا تفكيك للنقد وهذا لا يعني أننا نحطّ من قيمة كلّ نقدٍ او نزعة نقدية. لكن يكفي أن نتذكر ما عنته سلطة النقد عبر التاريخquot;
أخيرا كلمة:
لعل من اكثر لحظات ابداع الكاتب عندما يتماهى فيه المؤلف مع الناقد، فيذوب في داخله الاثنان، واني اعترف اني وددت ان اكتب مقالا انتقد فيه كثيرا من quot;تفاهاتي الفكريةquot; التي صغتها يوما، لذلك لا اراجع ما اكتب في معظم الاحيان، وسبب ذلك يعود الى اني ما كتبت شيئا وأعدت قراءته الا وغيّرته، فما ادونّه اليوم قد لا أدونه في الغد، وما أؤمن به اليوم قد يتطوّر مع الوقت ويتغير، وان كان ذلك في عرف معظم البشر تقلبًّا، إلا أنه من وجهة نظري تطوّرًا للذات الانسانية في سيرورتها من جهة وهو سمة اساسية للانسان المحلل الناقد، فالثبات الذي يتغنى به الكثيرون ليس سمة وجودية بل موقف أيديولوجي يحجر الكائن في مستودع العقيدة.
اتابع مسيرتي اليوم في عالم التحقيق وكلّي أملٌ أن أتجاوز أنويتي الفكرية وأطوي كلّ أبعاد المادة والموضوع، فثمة أفق مفتوح على ممكنات لاتنحصر.