[1- 2 ]
ما أكثر الكوارث والمآسي في العالم، سواء بفعل الطبيعة، أو السياسات الدكتاتورية، ولاسيما جراء جرائم الإرهاب الإسلامي، ومذابحه الجماعية المروعة؛ وما أكثر هموم وطننا العراقي، وعموم المنطقة، التي لا يمكن لأي مثقف وطني أن يكون غير مبال نحوها، وأن لا تستحوذ على تفكيره، وأينما كان.
هناك مثلا سيطرة الإسلام السياسي على مجتمعنا، وهناك مأساة لبنان والدور التدميري لحزب الله الإيراني، وثمة مشروع القنبلة الإيرانية، واستمرار غسل الأدمغة بالتعاليم الدينية المتطرفة، في الكتاتيب، أو في المدارس، ووسائل الإعلام، شحنا بالكراهية للآخر، وللتطرف الديني، وتشجيعا للعنف الدموي.
إنني من هؤلاء المثقفين العراقيين الحساسين بالهموم العامة، وطنية كانت، أو إقليمية، أو على صعيد البشرية. إنها تشغلني، وأقرأ أخبارها، والمقالات عنها، وأشعر بالتضامن مع الضحايا، ومع آلام الشعوب.
إذ أقول هذا، فإنني أيضا إنسان من لحم ودم، له عواطفه الخاصة، وحياته اليومية، وعالمه الخاص، وهواياته الشخصية، ومشاكله المرضية، والمعيشية.
إن عالمي الخاص متنوع من مكالمات حميمة، وبرامج تلفزيونية، وتجوال قصير في الحي، والأنترنيت، والكتاب، والمرض والمستشفى، وغيرها من تفاصيل يومية.
إن البرامج التلفزيونية المتنوعة لا تسليني وحسب، بل وتعلمني أيضا دروسا في الحياة، وتثري عندي الروح الإنسانية. إن الأفلام الكلاسيكية القديمة، التي سبقت لي مشاهدتها في الصبا والشباب، ما أن يعاد بث أحدها، حتى أنغمر في الجو، وتتداعى الخواطر والذكريات، لتنقلني إلى تلك العهود التي شاهدت فيها الفيلم لأول مرة. خلال عامين أعيد بث جميع أفلام شابلن، وفيلم ذهب مع الريح، ودافيد كوبرفيلد لديكنز، وتس لهاردي، وصوت الموسيقى لجولي أندراوز، والسيمفونية الريفية عن رواية أندريه جيد، التي ترجمها طه حسين في الأربعينات. في كل مشاهدة جديدة أنتقل إلى بغداد ذلك الزمان، بالعشرات من دور السينما، ومختلف الأفلام العربية، والأمريكية، والهندية، وغيرها. هنا أيضا تنقلني التداعيات فجأة، وبلا تفكير مسبق، لعراق اليوم، متذكرا مصير السينما في العراق، ومأساة الفنون، والموسيقى، أي انتقل فجأة من جوي الخاص إلى الهم السياسي العراقي العام، وكأنما السياسة قدر لا مفر منه!
أستمع منتعشا لأفضل الحفلات الموسيقية، والغنائية، بمختلف أنواعها، والتي تبثها المحطات الغربية، وترتاح أعصابي، ناسيا كل همومي الخاصة، ثم إذا بفكرة مفزعة مروعة تداهمني فجأة، وتخرجني من جوي الخاص، فأتساءل: ماذا لو جاء إرهابي [ أو إرهابية ] إسلامي، وفجر نفسه وسط هذه الجموع من الفتيات والشبان، السعداء، وقتل منهم بالعشرات لأنهم في رأيه كفار، وبلادهم دار الكفر! الفكرة نفسها تهاجمني وأنا في شارع سان ميشيل، حيث موسم السياحة، وتدفق السياح وأهالي باريس على المقاهي، والمطاعم، وعند النافورة الشهيرة جدا، مقابل القطار الأرضي الذي فجره الإرهاب الإسلامي عام 1995. تأتيني هذه الأفكار كالكوابيس ثم أصحو مرتاح البال لأن مذبحة ما لم تقع كمذبحة ذلك العام.
عالمي الخاص هو أيضا المواقع الألكترونية، التي لا أكتفي بقراءة أخبارها السياسية فقط، بل وكذلك المنوعات الطريفة، والمواد الثقافية المتميزة. طبيعي أن السياسة هنا تحتل الحيز الكبر من المواد، ولا أقول إن السياسة تداهمني هنا لأنني أنا الذي يتابعها. لكن الصحف الألكترونية تفجر عندي في الوقت نفسه مشكلة شخصية منذ انزلاقي من عالم الأدب إلى العمل السياسي الحزبي، على مدى ربع قرن، ودوري اليوم كمثقف وطني، مستقل، مطلوب منه أن يعالج الهموم العامة. المشكلة: هي هل أنا أميل للأدب أكثر أم أنني quot;حيوان سياسيquot;، كما يقولون! إنها إشكالية عندي قديمة، رافقتني حتى في السجون، ولاسيما عندما كنا نحرم من الكتاب، والورق، والقلم، فأشعر أنني شبه تائه، ويجتاحني حنين جارف إلى الروايات التي قرأت من قبل: إلى أوسكار وايلد، وديكنز، وتولستوي، وديستوفوسكي، وفيكتور هوجو، وتشيخوف، وغيرهم من عباقرة الأدب العالمي، وإلى طه حسين، ومحفوظ، والمازني، وتوفيق الحكيم، وغيرهم من أعلام الأدب العربي. عن ذلك أسجل حالة وقعت لي في السجن قبيل ثورة 14 تموز، حين بلغ من حنيني للكتب، أن صارحت بعض الرفاق بأنني لا أعراف هل أنا أديب أم سياسي، وسمع بذلك مسئول حزبي فاتهمني بالتخاذل، والرغبة في هجر الحزب، وظل يشنع علي لسنوات تاليات. في تلك الأيام نظمت قصيدة على ورق السيجار، وبقلم مخفي، فيها أخاطب جدتي، وأقول لها كم أحن لروميو وجوليت، وquot;لقصة حب من القاهرةquot; ليوسف إدريس، وخان الخليلي لمحفوظ، وقد نشرت القصيدة بعد تحررنا من السجن، ولم تتعرض لأي نقد سياسي.
عالمي الخاص هو أيضا تلك المكالمات الهاتفية مع شقيقاتي، وأشقائي في المهجر، ومع ابنتي وأحفادي، ومع الأصدقاء الأوفياء، ومعظمهم متفرقون في ديار الغربة، إلا شقيقتي الوسطى وولدي، وبعض الأقارب حيث هم في بغداد. نتبادل الأخبار الشخصية، ولكن حين أكلم من هم في بغداد ينتقل الجو كله للوضع السياسي، وإرهاب القاعدة، وجيش المهدي، وانقطاع الكهرباء، وندرة الماء الصافي، وعاصفة الغبار الأصفر الخانق، وبغداد التي تحولت لمزبلة رغم مرور خمس سنوات منذ سقوط صدام.
لقد كتبت خلال العقد المنصرم كثيرا من القطع الأدبية، نثرا وشعرا، ولكنني نشرت معظمها بتواقيع مستعارة خشية لومي من قراء لا ينتظرون مني غير المقال السياسي. لقد جمعت تلك القطع في مجموعة بعنوان quot;تداعيات العمرquot;، وكنت أتمنى لو سنح لي العمر بنشرها في كتاب بتوقيعي الصريح، واخترت أخيرا إيداعها لدى صديق عزيز ليقوم بتنسيقها، وحفظها، ونشرها تباعا حين يجد الوقت، والمناخ، ملائمين لنشرها باسمي الصريح، وقد اختار الصديق الشروع بنشر حلقات المجموعة منذ أسابيع؛ وبعد أيام تلقيت رسالة من صديق يعاتبني على عدم تكريس كل طاقتي للكتابة السياسية، مع أن مقدمتي أشارت بوضوح إلى أن القطع كتبت في أوقات متفرقة خلال سنوات العقد الماضي، بينما كنت أواصل نشر المقالات السياسية، والحقيقة أنني من خشيتي من عتاب كهذا صرت منذ زمان رقيب نفسي في اختيار الموضوعات المعدة للنشر.
أتوقف قليلا عند تلك الأعوام، حيث كنت في منتصف التسعينات أكتب لمجلة أسبوعية باريسية، يحرر صفحتها الساخرة الكاتب السوري اللامع، الصديق الراحل مصباح الغفري، الذي رحل قبل الأوان، ولابد لقراء إيلاف تذكر قطعته quot;العطسةquot;، التي شرشح فيها الأنظمة الشمولية العربية بلقطات ساخرة غير مباشرة، وبلا خطاب أو تحليل سياسي. صديقي شجعني على كتابة قطع ساخرة، وأفادني كثيرا، فصرت أنشر بتواقيع مستعارة؛ وما دام موضوعي اليوم هو عن كيفية اقتحام السياسة عالمي الخاص ومنها قطعي الأدبية أنقل التالي:
كنت أحيانا أكتب مقامات، كان بعضها على شكل حوار مع قطي المتوفى quot;ريميquot;، وكنت أدعوه quot;أبو الريم.quot; ذات مرة سلمت مصباح قطعة شعرية تبدأ هكذا:
quot; عطس الهر ففر الأسدُ وأتاني باكيا يستنجدُ
قال quot;يا مولاي ريمي قاتلي وأنا مستضعف مستوحدُquot;
قلت quot;لا تخش فريمي عاقل فيلسوف، وبه نسترشدُ.quot; ألخ.
نظر إلي صديقي، وقال بجد: quot;هل تريد منع دخول المجلة لسوريا؟!quot; دهشت جدا، واستفسرت، فقال: quot;إنهم لو قرئوا القصيدة لتصوروا أنها سخرية من الرئيسquot;. هكذا دخلت لي السياسة من حيث لم أكن أقصد أحدا، بل كانت مداعبة بريئة. في حالة أخرى نشرت مقامة أتحدث فيها عن صديقي quot;أبو الريمquot;، وبعد أيام قال لي مصباح إن وزير إعلامهم منزعج جدا لأنه يتصور أننا نهزأ به شخصيا لأن ابنته اسمها ريم!!
ألم أقل إن السياسة تقتحمني أينما وليت، ومهما فعلت؟؟، بل وحتى في المستشفى كما سيرد في المقال التالي.
في نهاية مقدمة المجموعة الأدبية كتبت أخاطب أعزائي:
quot; إن معنى الحياة في رأيي هو الحب بكل أشكاله، حب الوطن، والوفاء للشعب، وحب الآخر، وحب الحياة، وعشق الموسيقى، والغناء، والجمال، والإبداع بكل أنماطه. إنه الأمل المحلق في مستقبل قادم، وهو الذكريات، بكل تعرجاتها، وألوانها، وتوقيتها الزمني.quot;