عندما تستمر المركزية الأوربية في إقصاء من يخالفها
منذ أسابيع ووسائل الإعلام الفرنسية تتابع مسألة ما باتت تسمى بقضية quot;الزواج الملغيquot;. وخلاصة القضية كالأتي: شاب عربي مسلم أراد الزواج من فتاة مثله. وبعد أن أكتشف الرجل أن الفتاة غير باكر، كما أكدت له قبل الدخول بها، فأنه لجأ إلى القضاء الفرنسي لغرض إبطال الزواج، وكان له ما أراد. والحادثة، كما نرى، بسيطة، مبتذلة، وكثيرة الحدوث: شخصان يختلفان في أمر ما فيردانه للقضاء. فالرجل لم يشهر سكينه لقتل المرأة غسلا للعار، وهو لم يلجأ إلى طرق عشائرية، أو أي طرق أخرى، غير القانون المدني الفرنسي المعمول به والمطبق على جميع الفرنسيين، خصوصا وأن الزوجة اعترفت بأنها كذبت على زوجها. وقد استند القاضي في إبطاله لعقد الزواج، على المادة 180 من القانون المدني الفرنسي، والتي تنص على إبطال الزواج عندما يثبت حدوث خطأ في quot;الصفات الأساسيةquot; لأحد الطرفين. ورغم أن القانون لا يحدد ماهية هذه quot;الصفات الأساسيةquot; إلا أن الزوج رأى أن فقدان العذرية واحدة من هذه الصفات، وأيده القضاء الفرنسي. وكان يفترض أن تقف هذه الحادثة البسيطة عند هذا الحد، إلا أنها تحولت إلى قضية كبرى، سال بسببها حبر كثير، ثم تحولت، كالعادة، إلى مهاترات بين أفراد الطبقة السياسية، وإلى مناسبة لتصفية حسابات سياسية بين الأكثرية الحاكمة، بشخص وزيرة العدل رشيدة داتي التي أيدت الحكم في بادئ الأمر ثم تراجعت نتيجة الضغوط، وبين المعارضة من جهة أخرى. وبعد ذلك جاء دور المدافعات عن حقوق المرأة، والتحق بهن بعض من العلمانيين الجمهوريين اللذين اتهموا الوزيرة بالاستسلام للمسلمين الأصوليين.
وأنصافا نقول: إن الإسلام حشر حشرا في هذه القضية. فالذي دفع الرجل إلى إبطال عقد الزواج هو، منظومة من العادات والتقاليد والأفكار، قد يكون الدين احد مكوناتها، لكننا لا نظن انه الدافع الوحيد أو الأساس. وأي منظومة أخلاقية ثقافية عندما تتأصل في عقول مجموعة من البشر، فليس بمقدورهم، حتى لو أرادوا، أن يتخلصوا منها بين ليلة وضحاها، وحتى لو ولدوا وترعرعوا وعاشوا في مجتمع لا يعير وزنا لهذه العادات. فالقيم، مهما كانت، لا يمكن للمؤمن بها أن يتنازل عنها، هكذا لأن غيره من البشر يعتبرونها غير صالحة. والمرأة الفرنسية نفسها، أو الأوربية عموما، لم تحصل على الحقوق التي تتمتع بها حاليا إلا قبل وقت قصير، وبعد مخاضات عسيرة.
المعترضات والمعترضون ضد قرار القضاء الفرنسي بإبطال الزواج، لم يشككوا بنزاهة القضاء الفرنسي، ولم يطعنوا بالمواد القانونية، وأكدوا أن اعتراضاتهم تكمن فقط في اعتبار عدم عذرية المرأة، أحدى quot;الصفات الأساسيةquot; التي يبطل الزواج بموجبها، وهو أمر، ينتقص، حسب أرائهم، من حرية المرأة ومساواتها مع الرجل، ويعتبر تحديا لتقاليد فرنسا العلمانية. لكن، أو أليس هنا، بالضبط، يكمن (قلب المسألة) كلها، ليست فقط المسألة التي نناقشها، وليست فقط مسألة تعامل فرنسا مع مهاجريها العرب والمسلمين والأفارقة والعالم الثالث، وإنما المسألة الأشمل: التسامح أواللاتسامح الحضاري، فهم quot;الآخرquot; المختلف أو إلغاءه، فرض quot;المركزيةquot; الأوربية فرضا أو quot;تفهمquot; الأطراف أو، إذا ذهبنا أبعد، نقول إنها مسألة العلاقة بين quot;جمعةquot; وبين روبنسون كروسو.
لقد مضت ثلاثة قرون كاملة عندما نشر دانيال دفو روايته (روبنسون كروسو) عام 1719. ومنذ ذاك التاريخ وحتى يومنا هذا طبعت الرواية أكثر مما طبع من الإنجيل، وتم أدراجها في المناهج الدراسية، وكتبت عنها مئات البحوث النقدية والدراسات الجامعية، وحولها مخرجون كثيرون إلى أفلام سينمائية، وحورت لتكون قصة مشوقة يتداولها الأطفال جيلا بعد جيل. ولأنها كذلك، فان أفكار هذه الرواية أصبحت ملهمة لأجيال عديدة في الغرب، وساهمت، وما تزال، في صياغة وعيهم الثقافي والإنساني والأخلاقي، وتشكيل ذاكرتهم الجمعية.
ورغم أن ما من أحد ينكر القيمة الإبداعية لهذه التحفة الروائية الساحرة، التي يعتبرها، بحق، بعض كبار نقاد الغرب (أم) الرواية الأوربية، إلا أن أي ناقد، شرط أن يتوفر عنده مقدار ولو بسيط من الموضوعية، لا يمكنه إلا أن يقدر حجم quot;الخرابquot; الأخلاقي الذي أسست له رواية (روبنسون كروسو)، حينما رسمت العلاقة بين quot;المركزيةquot; الأوربية، وبين quot;الأطرافquot; البعيدة عنها. فالعلاقة التي أقامها المؤلف دانيال دفو بين بطل الرواية، الانكليزي/ الأوربي، روبنسون كروسو مع خادمه quot;المتوحشquot;، (جمعة) هي، علاقة ظالمة، بل منحطة بكل المقاييس. كروسو، الأجنبي المتطفل، القادم من أقاصي الأرض، هو الذي quot;أصطادquot; أبن البلاد الأصلي، وجعله خادما له، وهو الذي سماه (جمعة Friday)، وهو الذي علمه لغته الإنكليزية، وهو الذي علمه أن يقول له: (سيدي)، حتى قبل أن يعلمه مفردتي نعم وكلا. وكروسو، أيضا، هو الذي منح ديانته لخادمه، وعلمه كيف يقبل أسفل قدميه، بطاعة وبامتنان فيهما كثير من السادية. باختصار، كروسو، في رواية دفو، هو القوة العظمى، والصح، والصحيح، والحق، والعدل، والتقدم، والقانون الذي يجب أن يفرض على الجميع، و(جمعة) هو الخطأ والمخطئ والخرافة والباطل والظلم والفوضى والتخلف الذي يجب أن يضمحل ويتلاشى.
ترى، ماذا لو رويت قصة الرواية من وجهة نظر أبن البلد نفسه، أي جمعه؟ هل كانت الرواية لتأخذ هذا المنحى؟ وماذا لو أن كروسو حاول أن quot;يفهمquot; جمعة، هل ظل هذا الأخير صامتا، فاقدا للغته، مهما كانت تلك اللغة؟ بل ماذا سيحدث لو أن الكاتب دانيال دفو ترك لهذا الشخص quot;المتوحشquot; أن يتحدث عن ثقافته الأصلية، ويتصرف على هداها؟
بالطبع، أن تساؤلات كهذه لم تحدث، والرواية كتبت في صيغتها وخاتمتها اللتين نعرفهما، واللتين أعدهما المؤلف مسبقا. فقد كان الغرض الأكبر لكاتبها هو أن يجعلها عملا إبداعيا أدبيا، ينظر للسيطرة الاستعمارية الغربية الصاعدة والواعدة، والباحثة عن أسواق وبشر كانت الثورة الصناعية بحاجة لهما، ويضفي على العملية الاستعمارية شرعية آلهية وقانونية، ويبررها ويطالب بتطبيقها في كل مكان. لكن، إذا كانت هذه التساؤلات لم يطرحها دانيال دفو، فان كتاب أوربيين جاءوا بعده بقرون، طرحوها، وفندوا ما جاء في روايته، وانتقدوها بقسوة، واعتبروها quot;مانفيستوquot; أوربيا يدعو للعبودية والتفرقة العنصرية، فكتب بعضهم أعمالا أدبية مشابهة، فندوا فيها الرواية المذكورة ( نذكر هنا كتاب الفرنسي ميشيل تورنية quot; Vendredi جمعةquot;)، بينما رأي آخرون، وبعضهم نقاد مرموقون، أن تلك الرواية فيها كثير من الوضاعة، وأن كاتبها أنجزها انطلاقا من موقعه كquot;جاسوسquot; للحكومة وقتذاك، وكناطق بأسم الرأسمالية والطبقات المحافظة. نقول هذا حتى نستبق من يريد أن يقول أن الحضارة الغربية كلها فاسدة، ويضعها كلها في سلة واحدة، وحتى نقول، أيضا، أن الإرث الاستعماري الأوربي وجد من يهاجمه ويكشف جرائمه، من بين المثقفين الغربيين أنفسهم. وعلى سبيل المثال، ما من أحد هاجم الإمبراطورية البريطانية وكشف ما جرته من ويلات على شعوب المستعمرات، وانتقد بشدة كل الإرث الثقافي الذي هلل للاستعمار، أكثر مما فعل الكتاب اليساريون البريطانيون الذين ولدوا عشية الحرب العالمية الأولى، أو ما تطلق عليهم تسمية quot;جيل أودنquot; نسبة إلى الشاعر أودن W. H. Auden، إلى حد أن احد هولاء (H. E. BATES) قال صراحة: quot;لتذهب إلى الجحيم هذه الإمبراطورية الشمطاء.quot;
لكن الأمور ليست بهذه البساطة. فالذاكرة التاريخية لا تنمحي، كما قلنا، بين ليلة وأخرى، والبشرية، كل البشرية، لا تسير، دائما وأبدا، على خط مستقيم واحد، وإنما تمر بمنعرجات وانحناءات وصعود وهبوط. والدليل أن البعض في أوربا ما يزال يفكر حتى هذه اللحظة بعقلية quot;المركزية الأوربيةquot; التي ترى أن أوربا هي quot;القلبquot; وما عداها quot;أطرافquot; تعيش بفضل ما يضخه القلب من دماء، وعليها، لأنها أطراف، أن لا تعارض quot;قواعدquot; الحضارة الأوربية. ونحن نشير، هنا، إلى ردود الأفعال على الحادثة التي بدأنا بها مقالنا هذا. فقد صدرت ردود الأفعال التي استنكرت إقدام الرجل العربي المسلم على إبطال الزواج، من قبل شخصيات ومنظمات تنتمي إلى اليسار واليمين الفرنسي، رأوا أن هذه الحادثة تعد تحديا للقيم العلمانية في فرنسا. لكن، أما كان أولى بهولاء المعترضين أن يسألوا أنفسهم: هل أن العلمانية الفرنسية هي بهذه الهشاشة بحيث تكسرها هذه الحادثة الأخلاقية البسيطة؟ ثم، أليس من العدالة quot;الديمقراطيةquot; أن يحاول هولاء المعترضون أن quot;يفهمواquot; هذا الرجل quot;الشرقيquot;، ليفهموا بالتالي دوافعه لإبطال عقد الزواج؟
إن quot;فهمquot; (الآخر) المختلف، لا يعني الموافقة على كل ما يؤمن به من أفكار وقيم. إنه يعني التسامح والغفران، وبالتالي قبول الآخر المختلف، كما هو، وتفهم، إن لم نقل احترام قيمه التي يؤمن بها، وعدم النظر إلى هذه القيم بدونية وباحتقار. فالرجل quot;الشرقيquot; صاحب القضية المشار إليها، سلك طريق quot;المركزية الأوربيةquot;، أي القضاء الفرنسي نفسه، ليدافع عن قيم يؤمن بها ويراها هو صحيحة، لكنه رفض أن يكون (جمعة) يتقبل ما يؤمر به، بينما تصرف المعترضون، للأسف، كما لو أن أحدهم (كروسو) معاصر quot;يعلمquot; الآخرين ما يجوز أو لا يجوز.