بدأت كوريا الشمالية في التخلص من ترسانتها العسكرية النووية والتخلي عن النهج الاشتراكي المنكمش الذي يعول على الذات في السياسة والاقتصاد لتدخل من الباب الكبير إلى نهج العالم الحر والتعاون مع الدول الأخرى في مجالات شتى مما يعني نهاية مؤثرات الحرب الباردة ومخلفات الحقبة السوفياتية على شبه الجزيرة الكورية واكتمال الطوق الأمريكي على العالم.
ماهو بديهي أن أمريكا تظهر في شكل نمط إمبراطوري وأن هذه الإمبراطورية تهيمن على العالم وأن آليات الهيمنة والتحكم فيها ماهو خفي غير معلن وفيها ماهو ظاهر وبادي للعيان.
الآليات الأولى الواضحة هي الدعاية للنمط الليبرالي الديمقراطي وتصوير التنافس بين الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري وبين القوى والخطوط المتباينة في هذين الحزبين على أنها نموذج للنقاش العقلاني الحر في المجتمع ومثال ساطع للديمقراطية الحقيقية والتبشير بها من أجل تطبيقها في أي ركن في العالم,
الآلية الثانية هي اعتماد الولايات المتحدة الأمريكية على مؤسسات الأمم المتحدة وخاصة الهيئة العامة ومجلس الأمن واستخدام حق النقد الفيتو في سن القرارات أو منعها من أجل تطويع الدول وتركيع الشعوب الرافضة والخارجة عن الإرادة الدولية.
الآليات الخفية التي تستخدمها أمريكا للسيطرة على العالم هي الأحلاف والقواعد العسكرية والتي تبنى في كنف السرية ولا تكتشف إلا في فترة متأخرة ومنتشرة في كافة أرجاء المعمورة ويتقدمها الحلف الأطلسي والقواعد المركزة في الدول الشرق أوسطية مثل تركيا وبعض الدول العربية ودول آسيا الوسطى وجزر في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الهادي.
الجانب الثاني هو اقتصادي ويشمل الشركات متعددة الجنسيات والتي تشتغل في مجالات إستراتيجية مثل الرقميات والمرئيات والصناعات الثقيلة والغذائية وتركز على تصدير نمط الحياة اليومية في أمريكا إلى الخارج بما في ذلك أشكال اللباس والمسكن وأنواع المأكولات وطرق التهيئة العمرانية.
ربما اعتماد عدد كبير من الدول في العالم على الدولار الأمريكي في المعاملات المالية مع الخارج والتحكم في أسواق وأسعار النفط بتخفيضها عند الاقتضاء أو الزيادة فيها هو أحد هذه الآليات وأنجعها.
لقد قسمت أمريكا العالم إلى محور الخير الذي يضمها إلى الدول المتحالفة معها والراضية بسياساتها مثل الاتحاد الأوروبي ودول شمال أمريكا واستراليا ومحور الشر الذي يضم الدول المارقة والرافضة لسياساتها ومن بين هذه الدول إيران وكوبا وسوريا وفينوزويلا والصين وكوريا الشمالية.
الإشكالي أن أمريكا لم تضع معايير واضحة تبرر به هذا التقسيم، فهي تغض الطرف عن بعض الدول الشمولية التوريثية وتدرجها ضمن محور الخير على الرغم لعدم احترامها لمبادئ الديمقراطية الكونية وتدرج دول أخرى ضمن محور الشر رغم كونها حققت نجاحات كبيرة في سلم التنمية وتتبع سياسة سلمية ومتسامحة.
اللافت للنظر أن عدد الدول الخارجة عن الطوع بدأ يتناقص وأن الإمبراطورية بدأت تكتسح ما تبقى من المناطق فقد شرعت كوريا الشمالية في تدمير ترسانتها النووية بعدما أثارت قضيتها إحراجا دوليا كبيرا وضعت فيه العلاقات الصينية الأمريكية على المحك وهو ما يعني السير على خطى توحيد الدولتين وانهاء الاحتقان السائد بين الشمال والجنوب الكوري.
علاوة على ذلك تناقلت وسائل الإعلام أنباء عن لقاءات سورية اسرائلية وإمكانية استعادة الجولان مقابل إمضاء على كامب ديفيد جديدة وهناك نية لاستئناف التمثيل الدبلوماسي الأمريكي في إيران ولو على مستوى مكتب رعاية مصالح مما يعني حوارات خفية بين الجانبين حول العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين دون أن ننسى تبادل الأسرى بين حزب الله وإسرائيل وإبرام اتفاق الدوحة بين الفرقاء اللبنانيين وبرعاية دولية الهدنة التي أبرمتها حماس مع إسرائيل والتي قد تؤدي إلى اعتراف العرب بهذا الكيان.
تنتهج أمريكا سياسة الاحتواء والاحتواء المزدوج وهي تريد تطويع هذه الدول المتنطعة وتمارس عليها الضغط والحصار من أجل أن تدخلها إلى بيت الطاعة وقد نجحت إلى حد ما مع الأنظمة ولكنها فشلت مع الشعوب إذ بقدر إعلان معظم دول العالم الولاء للإمبراطورية فان الشعوب وهيئات المجتمع المدني بعض المفكرين أبدوا امتعاضهم وسخطهم على العولمة المتوحشة التي تريد نشرها في المعمخورة.
كل هذه الملاحظات تشير إلى أن الطوق الأمريكي بدأ يتسع ليشمل جميع أنحاء العالم بما في ذلك الصين وروسيا، فهل يعني هذا الإقرار أن الحلم بعالم خال من الغطرسة والهيمنة غير ممكن؟ وهل تعثر مشروع عالم متعدد الأقطاب؟

كاتب فلسفي