quot;ان قدرة الانسان على العدالة تجعل الديموقراطية ممكنة، غير ان ميل الانسان إلى الظلم يجعل الديموقراطية ضرورةquot; (رينولد نيبور)
quot;قوة أمريكا ليست في أساطيلها وقنابلها أو حتي جامعاتها، أو بالأحري فهذه كلها هي القوة وليست سببها أو مصدرها. كذلك ليس مصدر القوة اتساع أراضيها أو تنوع مواردها (روسيا تعادلها) لكن دستورها وقوانينها هي التي اعطتها القوة التي مكنتها من كل شئ quot;، هذا ما كتبه العلامة مصطفى صفوان في كتابه القيم quot;الكتابة والسلطةquot;.
والملف في أمر الدستور الأمريكي أنه لا يتضمن نصا حول اللغة الرسمية للدولة، وتلك لم تكن هفوة بل قرار قصدي دعا إليه أبو الفيدرالية الأمريكية quot;توماس جيفرسونquot;، لأنه لم يرد لذلك الدستور أن يحتوي على أي نص يوحي بالاقتصارية العرقية أو الفئوية.
أضحت اللغة الانجليزية لغة سائدة ووسيلة للتواصل بين شعوب أمريكا بحسبانها أكثر اللغات تقدما وأوسعها شيوعا، على المستوي العالمي، بين كل اللغات التي كان يتحدث بها المهاجرون مثل: الهولندية والألمانية والإيطالية والإسبانية ولغات أهل الشمال الاسكندنافي.
كما أصبحت الانجليزية وسيطا لصهر كل الثقافات الوافدة في بوتقة واحدة، لأن الناطقين بها من أهلها كانوا يعدون أنفسهم كيانا قائما بذاته على أرض تجمع بينهم وبين غيرهم، لا امتدادا لكيان آخر وراء المحيط الأطلسي مما سهل عملية التمازج، وأفسح الطريق أمام quot;المواطنة الديموقراطيةquot;.
وحين حذر صامويل هنتنجتون في كتابه quot;من نحن؟quot;، عام 2004، من تغيير الهوية داخل الولايات المتحدة نتيجة للانفجار الديموغرافي لأهالي دولة المسكيك، وهو ما يعرف بـ quot;مكسكةquot; أمريكا، والتي أفرزت ثقافة ثنائية اللغة، مشيرا إلى أنها ستتحول مع الأيام إلى نظام سياسي وسلطة ثنائية، ظهرت عشرات الكتب التي تنتقد هذا الزعم، وتؤكد علي أن التعدد والتنوع الثقافي في ظل المساواة السياسية، هو أهم ما يميز أمريكا.
ولذلك لم تجابه أمريكا، كغيرها من الدول، سواء كانت عظمى أم صغرى، مشكلة الأقليات، خاصة مع زحف العولمة وانتشارها. فإذا كان تعبير الأقلية، في الأدب السياسي والدستوري، يشير إلى مجموعة غريبة تعيش في حمى وطن أو قوم يرعونها وهي، بالضرورة، منقوصة الحقوق والواجبات، فإن هذا التعبير لا يعني شيئا في بلد بوتقة، يتميز دستوره بالمساواة، نصا وفعلا، بين مواطنيه جميعا.
فأنت لا تستطيع، بهذا الفهم، الحديث ndash; من الناحية الدستورية ndash; عن الأقلية الزنجية في أمريكا، فهؤلاء أصحاب حق في الأرض لهم ما لأهلها كلهم من حقوق وعليهم ما على أهلها جميعا من واجبات.
أضف إلى ذلك ان تعبيري الأقلية والأغلبية اصطلاحان إحصائيان لا معنى لأي واحد منهما دون توصيف: فقد تشير الأقلية والأغلبية إلى الدين، وقد تشير إلى اللغة، وقد تشير إلى المنبت العرقي، وقد تشير إلى الجنس (الرجال والنساء). لهذا فإن الاختيار الانتقائي لمثل هذه الاصطلاحات لن يفيد الوطن أوquot;المواطنة quot; في شئ بل يوقع الناس في محنة أبدية، فإن اختيار واحد، مثلا، الدين لتمييز أهل البلد فما الذي يمنع الآخر من اختيار الأصل العرقي.
وquot; الديمقراطية الليبرالية الدستورية quot; ndash; حسب تعبير الدكتور خالد يونس خالد في بحثه القيم: الديموقراطية الليبرالية والدولة المدنية الدستورية - هى ذلك النظام الذى يحترم عملياً ثلاثة مبادئ أساسية: وهى مبادئ لا يمكن ضمانها إلا فى نظام تمثيلى برلماني. وهذه المبادئ لا تعود إلى اليونان كما يبدو للوهلة الأولى، وإنما إلى ثلاثة فلاسفة محدثين هم: جون لوك فيما يخص المبدأ الأول، ثم جون لوك ومونتسيكيو فيما يخص المبدأ الثانى، ثم جان جاك روسو فيما يخص المبدأ الثالث.
أما المبدأ الأول فهو مبدأ ldquo;التسامحrdquo;، ويلزم الدولة بأن تضمن على أرضها حرية التعبير عن المعتقدات السياسية، والفلسفية والدينية، بشرط ألا تؤدى هذه المعتقدات إلى إشاعة الاضطراب أو الفوضى فى الساحة العامة للمجتمع.
وينص المبدأ الثانى على ضرورة الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية. فالسلطة التشريعية هى التى تصدر أو تبلور القوانين، والسلطة التنفيذية هى التى تطبقها أو تحولها إلى واقع، والسلطة القضائية هى التى تعاقب من ينتهكون هذه القوانين حتى ولو كانوا من رجال السلطة نفسها.
وهذا المبدأ يهدف إلى إقامة دولة الحق والقانون، وهى تختلف عن الدولة السابقة القائمة على القوة فقط أو البطش والطغيان.
وأما المبدأ الثالث الذى لا يمكن لأى ديمقراطية أن تنهض وتستمر بدونه فهو مبدأ ldquo;العدالةrdquo;. فالديمقراطية الحقيقية لا ينبغى أن تكتفى بكونها ديمقراطية شكلية مفرغة من المساواة والعدل.. فماذا تفعل الحرية إذا كانت الجماهير جائعة لا تملك قوتها؟.
بيد أن تراث الديمقراطية الليبرالية، خاصة فى انجلترا وأمريكا، أدرك ضرورة وجود أحزاب المعارضة القانونية. ويعنى ذلك أن على حزب الأغلبية أو الأكثرية واجب التسامح مع حزب الأقلية المهزوم، ومن دون سياسة ldquo;التسامحrdquo; يمكن لسلطة الأغلبية فى وقت معين أن تؤدى إلى الدكتاتورية، وتنتهى فكرة الديمقراطية. هذا التسامح يعنى، فيما يعنيه، أن القرارات والإجراءات التى تتخذها الأغلبية، بما فيها سن القوانين، يمكن أن تظل موضع انتقاد الجماهير.
هكذا نجد أن الديمقراطية الليبرالية تفرز التسامح وترعاه أيضاً، وأن التسامح بدوره يحافظ على الديمقراطية من أن تتحول إلى نقيضها (الدكتاتورية) وخطرها المتمثل فى الشمولية والعنف. ذلك أن أية محاولة لإعطاء قرارات الأغلبية صفة (الإطلاق) تعنى انكار طبيعتها المشروطة، فيظل للأقلية الحق من خلال وسائل الإعلام فى أن تطالب بتعديل القرارات التى تم إصدارها فى فترة انتخابية أخرى.
أضف إلى ذلك أن الإمكانية القانونية فى تشكل أغلبيات جديدة يعنى أنه ليس للأغلبية فى أى وقت الحق فى أن تفعل كل ما فى وسعها لمنع مثل هذا التغيير، حتى وإن لم تكن راغبة فيه. فعلى النقيض من ذلك، ينبغى للأغلبية الحاكمة أن تقبل هذه الإمكانية على أنها مسألة مبدئية. وأن يسمح قانونياً بتغيير الحكومة ويكون التغيير ممكناً فى الواقع. والشروط اللازمة لهذه ldquo;المسئولية الحقيقيةrdquo; هى حرية الإعلام والنشر مع حرية التنظيم والتظاهر.
معني ذلك أن الديموقراطية الليبرالية تستند إلي دستور مدني يحقق المواطنة، لأن حكم الاغلبية لا يعني حرمان الأقلية في صنع القرار، ومن ثم فالديموقراطية التي تحكمها الأغلبية ولا تقوم على أساس ليبرالي تعرقل تحرر الأفراد والمجتمعات وتضيع حقوق الأقليات.
أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]