في السنوات الأخيرة أضاف اليساريون والقومجيون العرب -ولحق بهم تيار التأسلم السياسي- طاحونة هوائية جديدة من طواحين الهواء التي أدمنوا على محاربتها -أو الجهاد ضدها- بجانب الإمبريالية الأمريكية والصهيونية العالمية، تلك هي quot;العولمةquot; التي اعتبروها الحلقة الأحدث من المؤامرة العالمية على العرب والمسلمين، بغية تحطيمهم وإجهاض نهضتهم الكفيلة بتسيدهم للعالم أجمع، وهذا يغري بمحاولة اختراق الكهوف التي ينكفئ فيها هؤلاء على أنفسهم، فربما يستدرجهم الحوار للخروج للهواء الطلق.
جدير بالكثيرين الذين يطابقون بين العولمة والهيمنة أن يتحسبوا، أن تكون رؤيتهم ليست أكثر من إساءة قراءة الواقع، سواء نتيجة عجز في المعلومات والقدرة على استقرائها، أو نتيجة للوقوع في أسر مفاهيم تجاوزها الزمن، ولم تعد صالحة لتوصيف وفهم الواقع الراهن.
لابد ابتداء من تذكر أن العولمة مجرد اسم جديد لتيار قديم، سارت فيه الإنسانية منذ بدأ الإنسان يستخدم في انتقالاته وسيلة بخلاف قدميه، سهلت له الاتصال بالآخرين، بدأت باستخدام الدواب، ولم ولن تنته مسيرة تطوير تلك الوسائل منذ أن نجح في البداية في اختراع العجلة، مما ترتب عليه زيادة الاعتماد المتبادل بين البشر في توفير مقومات الحياة، ولم يفرض مفهوم العولمة نفسه أخيراً، لمجرد أن قوة أو قوى عظمى ارتأت في نفسها القدرة على الهيمنة على كل كوكب الأرض بمن فيه، كما يصور المناضلون الحنجوريون لأنفسهم ولقومهم، فما حدث أن التقدم التكنولوجي فائق التطور لوسائل المواصلات والاتصالات في الفترة الأخيرة، قد أدى إلى قفزة هائلة باتجاه إلغاء عنصر الجغرافيا أو المسافات بين الدول والأفراد، وكان لابد وأن يتبع هذا (كما حدث طوال مسيرة الإنسان) قفزة مماثلة في درجة وحجم الاعتماد المتبادل بين الشعوب، فتشابكت الأعمال والمصالح والتقت الثقافات، وسقطت مفاهيم كثيرة مع الجغرافيا أو تغير محتواها، منها quot;الاستقلال التامquot; وquot;الاكتفاء الذاتي الكاملquot;، فعندما ترتبط بعمل مع آخر، فلست حراً عندها أن تتخذ قرارات منفردة قد تؤذيه، وعندما تقترب المسافات وتتنوع المهارات تعرف الشعوب التخصص، كما عرفه الإنسان البدائي حين بدأ يعيش في مجتمعات، وكان التخصص يومها نقلة نوعية غير مسبوقة في مسيرة الإنسان الحضارية.
ليس الأساس في العولمة إذن مسألة الهيمنة، وإن ظل التخوف منها وارداً كنتاج ثانوي للارتباط الزائد بين الكيانات، سواء ارتباط بين مكونات شركات عملاقة عابرة للقومية، يكون لها مركزاً مسيطراً وهوامش تأخذ دور التابع، أو ارتباط بين دول تتداخل مصالحها، مع تفاوت في قدراتها المادية والعسكرية، علاوة بالطبع على أن ارتباط الاقتصاد العالمي، وما أدى إليه من سيناريوهات لعبة الدومينو في أوقات الأزمات، حين يكون الأقوى عندها هو المتصدر لقيادة الاقتصاد العالمي خروجاً من أزمته، في الاتجاه الذي تمليه مصالحه بالدرجة الأولى، فما يترتب على المستوى الثانوي أو الأعلى من احتمالات تعارض أو تنافس، لا يلغي عن الأساس أو البنية التحتية طبيعته، من حيث تشارك الجميع في فوائد الاتصال والترابط، بما يعني أننا في مواجهتنا لما يترتب على العولمة من إشكاليات، لا ينبغي أن نعادي العولمة أو المرحلة الحالية للحضارة الإنسانية ذاتها، وإنما نركز جهودنا على مستواها الثانوي، الذي قد نتخوف فيه مثلاً من تعارض المصالح أو وحشية التنافس.
رغم أن تعارض المصالح بين الكيانات المختلفة وارد، إلا أن التصورات عنه تتفاقم متى هيمنت علينا فكرة أن الحياة تماثل لعبة المجموع الصفري مثل كرة القدم مثلاً، فما يحققه طرف من مكاسب لابد وأن يأتي خصماً من حساب الطرف المقابل، فلكي تسجل هدفاً عليك أن تسجله في مرمى الخصم، فالثقافة التي تنظر للحياة بهذا المنظور هي ثقافة موروثة من أزمنة الصراع والغزو والنهب والسلب، والتي تميزت بها بشكل كامل المراحل البدائية من مسيرة الإنسان، لكن مع تقدم الحضارة أخذت نظرة المجموع الصفري تتراجع تدريجياً، وبمعدلات سرعة متفاوتة بتفاوت الزمان والمكان، لتخلي مواقعها لنظرة جديدة للعبة الحياة، تماثل ما نعرفه بالألعاب التنافسية، مثل مسابقات ألعاب القوى، وفيها يتبارى الجميع وفق القواعد المحددة، ولا يكون ما يحققه طرف خصماً مما تحققه باقي الأطراف، ويمكن أن تكون نتيجة السباق انتصاراً للجميع رغم وجود ترتيب للفائزين الأوائل، ذلك إذا ما استطاع الجميع تحطيم أرقامهم السابقة، ثقافة اللعب التنافسي ترثها المجتمعات المنتجة، بداية من المجتمعات الزراعية وصولاً إلى عصر الصناعة وما بعدها، فجهد المنتِج للتفوق يتجه إلى الإنتاج لتعظيمه وتحسينه، سواء كنت مزارعاً أم صانعاً، ولا يلزم هنا أن تتجه لمنافسك لتعويقه أو تحطيمه، فأنت هنا لا تحتاج لسيف وإنما فأس أو آلة.
يظهر الخلط هنا إذا ما دخلنا عصور الإنتاج بثقافة البداوة والغزو التي تشكل قلب الثقافة العربية، لأننا سنكون فريسة للخوف ومصدراً للتخويف، أو كمن يحاول أن يلعب لعبة بقواعد أخرى مختلفة تماماً، بالطبع مع ملاحظة أن ما نعرضه من توصيف لقواعد اللعب أو المراحل الحضارية هو رؤية تقريبية إلى حد ما، فحتى ماضي الإنسان البدائي لم يكن كله صراعاً وسلباً ومجموع صفري، كما أن الإنسان حتى في مرحلتنا الراهنة لم يصل إلى تأسيس مجتمع تنافسي خالص، فحتى العرب لم يكونوا أهل غزو ونهب ليس إلا، فقد احترفوا التجارة أيضاً، وكانت لهم مواسمهم التجارية المنتظمة، في ما يعرف برحلة الشتاء والصيف، لكننا نتحدث عن التيار العام الذي يتجه إلى إحلال التنافس محل الصراع، بقدر ما يتجه إلى الإنتاج بدلاً من النهب والسلب.
يبقى التنافس مصدراً للتخوف ربما حتى الفزع للبعض، فعندما يتاح للجميع الجري في ساحة مفتوحة، فالضعيف معرض للتعثر وقد تدهسه أقدام الأقوياء، وعندما نغلق الباب أمام الواردات يجد المنتَج الرديء من يشتريه ولو بأغلى الأسعار، وإذا ما فتحنا الأبواب يجد منتج السلع الرديئة نفسه أمام ثلاثة خيارات: إما أن يطور نفسه وقدراته ليستطيع المنافسة، وإما أن يستكمل شروط الالتحاق بالأقوياء فيستمد من التحاقه بهم قوة، أما إن عجز عن هذا أو ذاك فليس أمامه أن يفعل إلا كما يفعل كثيرون حالياً، بأن يحترفوا الشجب والتنديد ولطم الخدود، وقد يرغب في المضي في هذا الطريق إلى نهايته، فيحترف الإرهاب ليدمر الحضارة على رؤوس المتحضرين والمتخلفين معاً، وربما كان هذا هو الخيار الأثير في ظل ثقافة الموت الجاري ترويجها بالمنطقة العربية الماجدة.
[email protected]