الحلقة الأولى
[2- 2 ]

لمزيد من التأكيد على ما هو معروف عني، فإن القضايا السياسية تهمني، لا كناشط سياسي ينتمي لحزب معين، أو لتيار سياسي له برنامجه السياسي، بل كمواطن، ومثقف. إن السياسة بهذا المعنى الواسع جدا قد يمارسها الإنسان دون أن يعرف، فحتى المواطن العادي، وإن لم يكن كاتبا؛ مثلا عندما يتشكى المواطن من أوضاع البلد، أو يردد نكتة سياسية، وما أكثر النكات الشعبية السياسية زمن فترة جمال عبد الناصر، وفي العقد الأخير من عهد صدام.

إن السياسة مرتبطة، بهذا القدر أو ذاك،،بكل شيء، سواء مباشرة، أو غير مباشرة، ويشكل واضح، أو مستتر. هكذا تحيط بي السياسة حتى في عالمي الخاص، في حياتي اليومية وتفاصيلها، إذ لا مفر منها، وهذا لا يشكل مشكلة ما لي.

لقد بينت في القسم الأول من هذا المقال المنشور في إيلاف بعنوان (عندما تطارد السياسة عالمي الخاص!) كيف أن فيلما، أو أغنية، يعودان بي، ودون شعور، لعالم مرتبط بالسياسة مباشرة. إن دخول السياسة للعالم الشخصي قد يثير مرة الارتياح، لو كان الخبر إيجابيا، وقد يفجر الغضب والاحتجاج، وقد يبعث على التأمل ويحفزني على الكتابة.

لا يمكن مثلا، وبالنسبة للأخبار الأخيرة، أن لا أتعاطف مع ضحايا الإعصار في الفيليبين، وضحايا حرائق كاليفورنيا المندلعة منذ أسبوعين. لا يمكن أيضا عدم الاكتراث بتحرير السياسية الكولومبية إنغريد بيتانغور مع 14 من زملاء لها كانوا في الأسر مقبل منظمة فارك، وأن لا يقودني ذلك إلى الإرهاب وكيفية التصدي له، والدروس التي يمكن استخلاصها من القضية كلها ومنذ بداية الخطف.

إن هذا النمط من اقتحام السياسة لعالمي الخاص، لا بد منه، ويجب أن تدخل علينا، ولكن هناك حالات تقتحم السياسة من أبواب كريهة، ومن أقوال أشخاص تقزز آراؤهم، وتنفر، ولا تثير غير احتقاري، واشمئزازي، وهذه بعض الأمثلة:

ها أنا في المستشفى قبل عامين لإجراء عملية جراحية في الركبة. في كل مرة قبل دخول المستشفى أطلب غرفة مستقلة لأكون حرا في محادثاتي الهاتفية بلا إزعاج أحد، وحرا في اختيار برامج التلفزيون، رغم أن برامج التلفزيون في المستشفيات محدودة جدا وليست كبرنامج quot;الكابلquot; التي عندي في السكن، وهي بالعشرات والعشرات. وأقول بالمناسبة إنني نادرا جدا ما أشاهد فضائية عربية! انتقلت بعد العملية لمركز التأهيل الملاصق، فإذا بي أفاجأ بأن لا غرفة مستقلة لي، وقد اعتذروا ووعدوا خيرا. وضعوني في غرفة فيها رجل أعمال مصري في حدود الخامسة والأربعين، وتبين لي بعد دقائق أنهم تعمدوا وضعي معه لأن الرجل لا يعرف الفرنسية رغم بقائه في فرنسا أكثر من عشر سنين؛ أي أرادوني أن أكون مترجمه الخاص. وهذا ما حدث لسوء الحظ. لم تكن هذه المصيبة الوحيدة، بل كان الرجل، لعدم فهمه الفرنسية، يتذمر من التلفزيون، الذي دفعت سلفا أجرته خلال أيام التأهيل. جاء الليل، فإذا بشخيره يكاد يصل القاهرة! كان قد قال لي إنه متزوج، وقد ترك زوجته وأولاده في مصر، ولكن عندما زارني في اليوم التالي صديق مع زوجته اللطيفة، فإن صاحبنا، وما أن انصرفا، حتى باغتني بسؤال: quot; هل تعرف فتاة عراقية كهذه لأتزوجها؟quot; ماذا أقول له؟! لقد تمنيت لو قلت له: quot; إنني لست مكتب زواج، وإنك يا هذا متزوج، فلماذا لا تستحي!quot;، لكنني سكت، وتظاهرت بأنني لم أسمع.

إن كل هذه المنغصات لم تثرني بقدر ما حدث في اليوم الثالث، عندما فتح موضوع العراق والحرب، وقال:
quot; لماذا تركتم صدام يا عراقيون؟ إنه على الأقل منا، وإلينا، وقد فعل لكم الكثير، ووقف بوجه أمريكا وإسرائيل؟quot; لم أجبه، ولكنني بعد حين خرجت لأتصل برئيسة القسم قائلا لها: quot; إما أن تنقلوني لغرفة مستقلة، وإلا فسوف أغادر، وأترك العلاجquot;، فأعلمتني بأن غرفة ستكون جاهزة في اليوم التالي.

كما مع هذا الطرطور، أو quot;الجرابquot;، حيث تهاجمني السياسة من كوة مظلمة، وبغيضة، فقد حدث لي مرارا، وربما سيحدث، مع هذا اللبناني، حامل الجنسية الفرنسية، والذي يسكن العمارة المواجهة. إنه كلما رآني، صاح من بعيد: quot;يا عراقيquot;، ويهرع نحوي ليهاجم بوش، ويندب حظ العراق بعد صدام. quot;لا إرهابي غير بوشquot;، كما يردد. أما بن لادن، فكل ما يقال عنه، حسب هذيانه، فكذب، ولكن المشكلة عائلية بينه، وبين بوش، لأن أبا الأخير قتل أبا الأول، فالمسألة ثأرية! فيا لعبقرية الفهم والتحليل! لا أكاد أنجو من هذا الرجل، بقلنسوته السوداء، ووجهه الكريه؛ لا أنجو حتى إن نظرت يمينا، ويسارا، في اليوم التالي قبل خروجي من عمارتنا، لكي أتجنبه، وحتى لو بدلت طريقي، تاركا الطريق الذي يسلك. أما عن فرنسا، التي يحمل جنسيتها، وله كما يقول شهادة دكتوراه منها في اللغة الفرنسية، فإنها في نظره quot;دولة صليبية، نهبتنا، وسلبتنا، وهي اليوم تريد تقنين الهجرة ضدنا quot;! إنه يذهب حتى لفبركة قصة أن الفرنسيين، إذا أردت التجنس، طلبوا منك تغيير اسمك، وهذا مجرد كذب لأن السلطات المعنية تسأل، مجرد سؤال: quot;هل تريد الحفاظ على اسمك، أم تريد تغييره؟quot;، والخيار يبقى لطالب الجنسية.
إن هذا النمط من العقليات نموذج للعقليات السائدة اليوم في العالمين العربي، والإسلامي، ولاسيما منذ هيمنة التطرف الإسلامي على مجتمعاتنا، وعقول الناس.

أخرج من هذا المناخ المقزز حالما أعود للشقة، وأفتح التلفزيون، فتهدأ أعصابي، وأكتشف كل يوم أكثر فأكثر مدى تخلفنا، ومدى تقدمهم؛ مدى انحسار التضامن الإنساني عندنا، ومدى انتشاره عندهم. بضاعتنا الرائجة هي الكراهية العمياء للآخر، ولكل القيم المتحضرة.

يسألني صديق: quot;هل في النية تأليف كتاب سياسي جديد؟quot;، فأجيبه بالنفي، لأنني متعب، وقد ألفت كتبا سياسية كثيرة، علما بأنني أواصل كتابة المقالات السياسية بانتظام. قلت لصديقي إن ما أتمناه حقا هو لو أستطيع تأليف كتاب عن حلقات هذا البرنامج الأمريكي المعنون quot;بناة القلب.quot; إنها حلقات ريبورتاجات ميدانية، حية، واقعية، متلفزة عن عشرات الجمعيات الطوعية في أنحاء الولايات الأمريكية، ومدنها، التي تتبرع ببناء دور مؤثثة لمن لا سكن لهم، أو لعائلات احترقت دورها، أو دمر الإعصار الدار وكل ما يملكون، أو عائلة تتبنى ستة أيتام لا يريدهم أحد، أو لهم صبي مقعد، مصاب بمرض خطير يمنعه من المشي، ولكن البيت ضيق، فلا يمكنه التحرك فيه بمقعده المتحرك إلا بمنتهى الصعوبة ألخ.

يأتي العمال المتطوعون، وحسب المدن، مع المتعهد، بالمئات، وهم يهزجون، رافعين العلم الأمريكي، وأهالي الحي في استقبالهم، ويبدءون العمل بحماس، وليل نهار، لإنجاز البيت خلال أسبوع، بينما تُرسل العائلة لأحد المصايف مجانا، وفي فندق من الدرجة الأولى، وهناك أيضا مخازن كبرى تتبرع بأفخر الأثاث.
في كل شهر يتلقى الفريق المشرف أكثر من خمسين كاسيت فيديو من عائلات تشرح معاناتها وقضاياها، وفي كل مرة يختار الفريق العائلة الأكثر حاجة لهم، وأحيانا يأتي الطلب من الجيران، وسكان الحي.

كم أشعر بالإنسانية وأنا أشاهد حلقات هذه الريبورتاجات، وما تدل عليه من عمق التضامن الإنساني، لاسيما والمتطوعون يعلنون بحرارة، وفي كل حالة، بأنهم سعداء، ويشعرون بنشوة خاصة لأنهم يساعدون العائلة، ويعتبرونها عائلتهم هم، وكثيرا ما تجمع التبرعات المالية للعائلة في حفلات موسيقية خلال فترة العمل، وحيث يحتشد جميع سكان الحي، أو حتى الأحياء المجاورة، من كبار وصغار، وقد يسهم بعضهم في العمل حسب قدرته واختصاصه. أما ذلك الرجل الذي ترك مدينته وعمله حالما سمع بوفاة أخته، الساكنة في مدينة أخرى، أمام طفليها، وجاء لرعايتهما، مضحيا، وبلا من يلزمه بذلك، فقد اعتبروه بطلا، وغنت مغنية معروفة تمجيدا له. إنها بطولة في الإنسانية، في حين لا نعرف اليوم غير بطولات الألعاب الرياضية!

ليس ما يجري في هذه الممارسات هو شفقة، أو رحمة، أو صدقة، ولا رشوة ماكرة لتجنيد العائلات لمشروع سياسي معين، ولا طلباً للجنة والتمتع بحور العين كما يجري في الدول العربية، والإسلامية، بل هو محض شعور بالمسئولية الإنسانية، وعشق مساعدة الآخرين بلا مقابل، وبكل حماس. فأين هذا من توزيع أمثال حزب الله، ومقتدى الصدر، الأموال الإيرانية على الفقراء، أو العاطلين، لأغراض سياسية بحتة؟؟

إن الجدير بالذكر هو أن بعض الحلقات مرتبطة مباشرة بالعراق، والحرب، كقصة المجندة الأمريكية من الهنود الحمر، التي كانت أول مجندة أمريكية تقتل في العراق بعد انفجار لغم. إنها quot;لوريquot;، تلك الشابة التي تركت وراءها طفلين، وتعاهدت مع صديقتها المجندة الشابة معها في العراق، quot;جيسيكاquot;، بأن ترعى كل منهما أطفال الثانية إن قتلت أولا، وجيسيكا هي التي طلبت من الفريق المختص مساعدة والدي لوري وطفليها لأن بيتهم ضيق جدا.

إن هذه نفحات إنسانية تهزني هزا، وأحيانا تفجر دموعي الممتزجة بالإعجاب، والانبهار، بهذا النموذج من البشر، وخصوصا إن قورنوا بأبطال الكراهية، ودعاة العنف من الإسلاميين، ومشايخ فتاوى احتقار المرأة، والقتال ضد quot;الكفارquot;!!