-1-
يُخيّل إلي، أن هذا الصيف سيكون أهدأ صيف يشهده الشرق الأوسط منذ سنوات. فلا غزو لدولة عربية من قبل دولة عربية أخرى كما جرى للكويت، في صيف 1990، ولا حرب عربية ndash; إسرائيلية، كما جرى عام 1967، و 2006، ولا اجتياح لبلد عربي من قبل قوات أجنبية. كما أن وتيرة الإرهاب في المنطقة، وخاصة في العراق، قد انخفضت إلى أدنى مستوياتها منذ عام 2003، بحيث أصبح العراقيون قادرين على النوم فوق أسطح منازلهم، وإقامة حفلات العرس التقليدية، دون خوف من تفجير انتحاري، أو تفخيخ سيارة.
-2-
كان بودي في هذا الصيف، أن أبعدكم عن السياسة وهمومها، كما اقترح عليّ الصديق عبد القادر الجنابي، والكتابة عن تجاربي الشخصية في الصيف، ولكن الهمَّ السياسي يغلب دائماً. فبينما الناس في الصيف ينتشرون في الجبال والمصائف، وعلى سواحل البحار والمحيطات، مستمتعين بشمس الصيف ومناظره الجميلة، نكمن نحن ككمون الثعالب أمام شبكة الانترنت، نتابع الأخبار كلٌ ببارومتره المختلف، ونتلقى الشتائم والسباب في معظم ردود القراء على ما نكتب، من مواضيع مزعجة ومكدرة لهم، وهم في هذا الصيف الشديد الحرارة والغبار. ذلك أن غاية وهدف الكتابة الليبرالية، ليست تنويم القارئ وجلب النعاس له، ولكن إحداث الصدمة مع القارئ وزحزحة كثير من الثوابت الخالدة عن أماكنها، وإيقاظ القارئ من نومه مفزوعاً مرتبكاً، لا يملك غير السباب واللعنات على رأس الآخرين، الذين أيقظوه من النوم في العسل. وفي واقع الأمر، فنحن أولاد كلب، ونستحق مثل هذه الشتائم والسباب على ما نكتب، بل نستحق الضرب بالجزم والشباشب، إن لم يكن بعضنا قد ضُرب بعد. ولكن الحمد لله أننا نكتب كلاماً يستحق السباب والشتيمة. فما يشتم ويسب في العالم العربي هو المهم وهو المؤثر. والدليل على ذلك أن الأنبياء والأديان وصاحب الأديان، يُشتمون في الأسواق والحارات العربية والمدارس والمكاتب، كل يوم مئات المرات. فلا تسمع إلا لعنة quot;يلعن دينكquot; وquot;يلعن ربكquot; (استغفر الله العظيم). كذلك فإن الحارات العربية، تلعن كل يوم أهم وأقدس جزء في جسم المرأة، وهو عضوها الأنثوي، فتسمع لعنة quot;ك... أمكquot; أو quot;ك.. أختكquot;. وبذا يشتم العربي أعز وأهم ما في الوجود، وما يُقبّله الملوك والأمراء والخفراء. فليس فقط الكتّاب المقلقون هم الذين يُشتمون ويُلعنون، لأنهم يكتبون ما لا يُرضى القراء. وهذا عزاء كبير للكاتب المشتوم والملعون. فإذا كان الأنبياء والأديان ورب العزة، يُشتم هكذا (ونستغفر الله مرة أخرى) مئات المرات كل يوم، فلماذا يتضايق الكتّاب من شتائم ولعنات القراء الغاضبين؟
والقراء معذورون في شتائمهم ولعناتهم المنصبّة على الكتّاب. فالكتّاب هم (الحيط الواطي) للقاريء. فالقاريء لا يستطيع أن يشتم، أو يلعن الدولة، أو الحكومة، أو الزعماء السياسيين، أو حتى شرطي المرور، ويفرغ كل حقده وكراهيته في الكتّاب الذين لا يحاسبون، ولا يُعاقبون، ولا يسجنون، أو يعدمون، كما يفعل أهل السلطة والصولجان، في العالم العربي.
-3-
ولكنا لاحظنا، أن عدد القراء الذين يشتمون ويلعنون الكتّاب في الصيف أقل منهم في الشتاء أو الخريف أو الربيع. ولا أدري ما هو سبب ذلك. وعندما دققت في الأمر، توصلت إلى أن السبب في ذلك، هو أن عدد القراء في الصيف أقل منهم في الفصول الأخرى. فغالبية القراء في الصيف مشغولون في كيفية معالجة شح المياه، وانقطاع الكهرباء، وعدم توفر الخبز، وارتفاع أسعار البطيخ في هذه الأيام، نتيجة لتعاطيه بدلاً عن الفياغرا، وأكبر فعالية منها، كما أعلنت بعض المصادر الطبية. كما أن جزءاً منهم منتشر على شواطيء البحار والمحيطات وضفاف الأنهر، ومشغول بصيد السمك، والتفرج على أجساد الحسناوات، أو السباحة، أو (التشمّس) لاكتساب اللون البرونزي.
-4-
والصيف ليس للقراء فقط، ولكنه أيضاً لرجال السياسة. فأعضاء مجالس الأمة من النواب والساسة من الحكام والمسئولين، يأخذون أجازتهم السنوية في الصيف، ويقصدون أوروبا غالباً، للتمتع بما سرقوه من المال العام، نتيجة للفساد المستشري في العالم العربي. ولا تجد الصحافة من مواد دسمة تسدُّ بها أفواه الصحف ووسائل الإعلام الأخرى الفاغرة غير أخبار الفن والفنانين، وأخبار المغنين والمغنيات، ومن لهم علاقة بفن الغناء خاصة، والهابط في هذه الأيام هبوطاً شديداً، نتيجة لهبوط الفضاء الثقافي العربي ككل.
لقد كنت أنوي في هذا المقال أن أحدثكم في هذا المقال عن quot;إسلام النقمةquot;، كما تحدث عنه ابن رشد العصر الحديث (المفكر السوري المهاجر إلى باريس هاشم صالح) الشارح لفكر محمد أركون كشرح ابن رشد لأرسطو، ولكن تفاهة الصيف على ما يبدو، أخذتنا عن جدية quot;إسلام النقمةquot;، فأرحناكم وأرحنا أنفسنا، من هذا اللغو، لغو الصيف، كما قال طه حسين من قبل.
السلام عليكم.