لعل ثورة 14 تموز هي من الثورات الأكثر إشكالية في التاريخ الحديث.
لقد اندلعت مساجلات ونقاشات ساخنة حول الثورة، طبيعتها، وقيادتها، ومبرراتها، وأسباب سقوطها في انقلاب دموي بشع، قد ذكرت عام 2001 أن مناقشة تلك الحقبة المؤلمة، والعاصفة، التي تركت بصماتها على المراحل التالية، وإلى يومنا، quot;هي لغرض الاستعبار، وأمانة للتاريخ، وليست لإثارة الحساسيات الماضية، والعقد، والضغائن. إن هذا ممكن بتوخي الإنصاف، والابتعاد عن المجاملات، وعن التحامل، وبتر الحقائقquot;.
في رأينا أنه كان من الأسلم للعراق لو تحققت التحولات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية المطلوبة بأساليب العمل السلمي والإصلاحات المتدرجة على شكل وثبات سلمية تنتقل من واحدة لأخرى، فتحقيق الثورة بالسلاح يشجع على اندلاع العنف والعنف المقابل، وانفلات العواطف الجماعية المتأججة في الشارع، والثورة الفرنسية الكبرى هي أوضح مثال. إذا كان هذا صحيحا، يبقى السؤال عما إذا كان ممكنا تحقيق التبدل الثوري بالعمل السلمي، وفرصه المتيسرة.
إن العهد الملكي شهد فترات انفراج لم نتعامل معها بموضوعية، ومرونة، وكانت أيام الانفراج الأخيرةقبل عهدي أرشد العمري والجمالي في 1954، أي وزارة نوري السعيد، وحل البرلمان الذي نجح في انتخاباته فريق من الساسة الديمقراطيين، وإلغاء إجازات الأحزاب والصحف، و وفرض مراسيم استبدادية قمعية، واعتقال العشرات من الساسة الوطنيين.
تلك كانت ظروف اندلاع الثورة العسكرية التي تحولت حالا لثورة شعبية وطنية، أي أن الأوضاع التي كانت قائمة هي التي فرضت قيام الثورة.
لقد بينا في مناسبات سابقة أن الثورة سرعان ما راحت تدريجيا ضحية للصراعات الحزبية الهائجة، ومزايدات الشارع اليساري، فضلا عن المؤامرات الخارجية، عربية وغربية. لقد برهنت كل القوى الوطنية على قلة النضوج، التجربة، والمرونة السياسية، في حين حوصر زعيم الثورة جراء ذلك بأوضاع معقدة، وساخنة، وخطرة،من مؤامرة الشواف، وانتهاكات كركوك، ثم انجرار القيادات الكردية لحمل السلاح ضد النظام، واتفاقاتها مع القوى القومية المتربصة بقيادة الثورة.
لقد حققت الثورة، رغم كل تلك الأوضاع الدقيقة، إنجازات كبرى معروفة في كل الميادين، لا يتسع المجال هنا للتوقف عندها، ولقد كان للزعيم عبد الكريم قاسم دور كبير جدا في تحقيق تلك الخطوات، وقد برهن على جرأة سياسية، ووعي عال، في خطوات مثل إصدار القانون المدني للأحوال الشخصية، وتعيين صابئي مندانئي، العالم الراحل، الدكتور عبد الجبار عبد الله، لمنصب رئيس أول جامعة عراقية.
كان الزعيم الفقيد يتميز بالتجرد التام من جميع أشكال التمييز العرقي، والديني، والمذهبي، وبين الجنسين، بل يمكن القول إنه في العديد من المواقف والإجراءات، برهن على نضوج، ومرونة سياسيين، افتقدتهما أحزاب، وحركات ديمقراطية، منها الحزب الشيوعي، وكامل الجادرجي.
كان عبد الكريم قاسم زعيما مقتدرا، وعاشقا للعراق وشعبه لحد التضحية بكل شيء شخصي من أجل القضية العامة. صحيح أنه، كعسكري، كان يحمل بذور النزعة الفردية، ولكن الأحزاب الوطنية اليسارية، والشارع المتحمس، هي التي كانت هي من وراء النفخ في تلك النزعة الفردية، ووصولها لدرجة النرجسية.
لم يكن عبد الكريم قاسم ديكتاتورا، وحاكما مستبدا، ولا زعيما شموليا كالراحل عبد الناصر، بل كان، بطبيعته، يميل للتسامح، ويريد التعاون مع كل التيارات الوطنية، والاستفادة من خبرها، ولكننا نحن الذين دفعناه تدريجيا لزعيم نرجسي، دون أن يفقد حتى النهاية حب الشعب، وحب الخير، وروح التسامح، التي كان إفراطه فيها، من أسباب سقوط الثورة، واستشهاد زعيمها المغبون، الذي عبدته الجماهير، وجدير بالذكر أن الكثيرين من الشخصيات السياسية التي عارضته، أو اشتركت في التآمر عليdivide;، عادت لإعادة تقيمها لشخصه، ولدوره المتميز، مؤكدة على وطنيته الراسخة، وتسامحه.
إن اسم عبد الكرم، وبرغم بعض خطواته الخلافية، سوف يبقى خالدا في قلوب العراقيين، وتاريخ العراق.