من مفكرة سفير عربي في اليابان
يقدر عدد سكان اليابان بحوالي المائة وثمانية وعشرين مليونا، ويمثل المسنين فوق الخمسة والستين نسبة 21% من السكان، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة لحوالي 35% مع منتصف الألفية الثالثة. وتزداد نسبة الإصابة بالأمراض المزمنة الغير معدية مع تقدم العمر، ويعتبر السرطان أكثر الإمراض شيوعا في اليابان وتتبعه إمراض القلب والشرايين. وترتفع تكلفة علاج السرطان بشكل صاروخي فهو من أكثر الأمراض تكلفة في العلاج وهو السبب الأول للوفيات في اليابان، فيؤدي لوفاة أكثر من ثلاثمائة ألف شخص سنويا، ويمثل نسبة تقدر بحوالي 30.5% من أسباب الوفيات.
وقد أرتفع الناتج المحلي الإجمالي لليابان في عام 2004 لحوالي 4.6 تريليون دولار. وتقدر دائرة الإحصاء اليابانية تكلفة الضمان الاجتماعي لنفس هذه السنة لحوالي 850 مليار دولار، وتشمل هذه التكلفة ميزانية نظام التقاعد بقيمة 440 مليار، وتكلفة الرعاية الاجتماعية بقيمة 85 مليار، وتكلفة الرعاية الصحية بقيمة 325 مليار دولار. وتغطى تكلفة الرعاية لصحية من خلال الضمان الصحي الذي تشترك الحكومة اليابانية وشركات الخاصة والمواطنين في تغطية مصاريفه. وتنقسم ميزانية الرعاية الصحية لخمسة أجزاء: ميزانية التأمين الطبي وتكلفته السنوية 150مليار، والتأمين الصحي والطبي للمسنين وبتكلفة 100 مليار، وتأمين الرعاية الصحية المزمنة وبتكلفة 60 مليار، وتأمين على حوادث العمل وبتكلفة 10مليار، وميزانية الصحة العامة وبتكلفة 5 مليار دولار. وتصرف نسبة كبيرة من تكلفة الرعاية الصحية على الأمراض المزمنة الغير وبائية كالسرطان وأمراض القلب والشرايين. كما تنهك الأمراض السرطانية الجزء الكبير من ميزانية الرعاية الطبية في المستشفيات وذلك للتشخيص والعلاجات الجراحية والدوائية والإشعاعية، بالإضافة للرعاية المزمنة.
وقد حاول العلماء البحث عن أسباب السرطان منذ عقود طويلة، واستطاعوا معرفة البعض منها وجاهدوا لاكتشاف العلاجات الوقائية المناسبة لها. فمثلا، اكتشف العلماء فيروسا مسببا لسرطان عنق الرحم، فأنتجوا تطعيما لهذا الفيروس يقي المرأة من الإصابة بهذا السرطان. كما أكدت الأبحاث العلمية بأن التدخين سببا هاما لأمراض السرطان، فيعتبر سببا رئيسيا لحوالي 90% من سرطانات الرئة، وسببا هاما لسرطان الكلية والمثانة والمعدة والفم والبنكرياس والرحم. ويقدر نسبة المدخنين في اليابان بين الرجال لأكثر من 50% حسب إحصائيات سنة 2000، بينما تنخفض هذه النسبة بين النساء لحوالي 10%. وقد أكدت دراسة عن اقتصاد التدخين نشرت بصحيفة اليابان تايمز في عام 1997، بأن التدخين يعتبر سببا رئيسيا لحوالي 21% من أمراض السرطان في اليابان، وبتكلفة علاجيه سنوية تصل لحوالي 3.3 مليار، بالإضافة بأنه سببا رئيسيا لحوالي 19% من إمراض القلب والشرايين، وبتكلفة علاجيه سنوية تصل لحوالي 3 مليار دولار. وقد قدر الباحثون تكلفة علاج مختلف الإمراض التي سببها التدخين في نفس العام لحوالي 12 مليار دولار. كما قدرت خسارة الاقتصاد الوطني الياباني لفقد إنتاجية موارده البشرية بسبب الوفيات والعطل المرافقة للتدخين لحوالي 26 مليار دولار. لتكون التكلفة الإجمالية للأمراض التي سببها التدخين في عام 1997 لحوالي 39 مليار دولار، وسترتفع هذه الأرقام بشكل صاروخي لو قدرت هذه التكاليف اليوم بعد عقد مضى من تلك الدراسة.
وقد أكدت الأبحاث قبل خمسة عقود بأنه من الممكن الوقاية من العديد من السرطانات بتجنب التدخين، ومع ذلك أستمر الكثيرون من مواطني العالم في التدخين. والجديد في الأمر، هو أن الأبحاث العلمية الطبية الحديثة تؤكد أيضا بأنه من الممكن الوقاية من 70% من السرطانات بتغير نمط الحياة الغربية التي اكتسبته شعوب العالم بسبب ثقافة العولمة. وقد كتب الدكتور روبرت وينبرغ والدكتور انطوني كوماروف مقالا بمجلة النيوزويك الأمريكية في الثلاثين من شهر يونيو عام 2008 بعنوان: السلوك الحياتي والوراثة والسرطان. ويؤكد المقال بأن نمط الحياة المترافق بالأغذية الغنية بالشحوم واللحوم الحمراء، والبدانة، وقلة الحركة، تزيد من احتمال الإصابة بالسرطان. ومن الممكن بتقليل الوزن، والتمارين الرياضية المنتظمة، وتجنب اللحوم الحمراء، والاعتماد على البروتينات النباتية واللحوم البيضاء، وأكل الفاكهة والخضرة والسلطة، وتجبن التدخين، أن تقل الإصابة بأمراض السرطان بنسبة 70%. وتؤكد الدراسات الطبية بأن السرطانات الشائعة في الولايات المتحدة كسرطان القولون والبروستاتة والثدي نادرة لأقل من عشرين مرة في دول الشرق التي تعتمد على أنماط حياتية مختلفة في الحركة والتغذية. كما تنخفض نسبة هذه السرطانات حينما يعيش الفرد الأمريكي لفترة طويلة في دول الشرق، بينما ترتفع نسب هذه السرطانات بين مواطني دول الشرق حينما تتغير نمط حياتهم للنمط الغربي، ويؤكد ذلك تغير نسب السرطانات في اليابان بعد تغير نمط الحياة للنمط الغربي في الأكل وكثرة التدخين وقلة الحركة.
وتؤكد الأبحاث الطبية الحديثة العلاقة المباشرة بين الوقاية من السرطانات والتغذية الصحية ونحافة الجسم وكثرة الحركة. فقد وضحت دراسة بمجلة الجمعية الطبية الأمريكية علاقة التغذية بالسرطانات، من خلال بحث للمرضى الذين أجريت لهم عملية جراحية لسرطان القولون. فبينت هذه الدراسة، بأن المرضى الذين اتبعوا حمية غذائية غنية باللحوم الحمراء ارتفعت نسبة رجوع السرطان فيهم لثلاثة أضعاف مقارنة لرجوع السرطان في المرضى الذين التزموا بحمية غذائية غنية بالفواكه والسلطات والخضراوات وقليلة في اللحوم الحمراء. ويفسر الأطباء سبب ذلك بقاء خلايا سرطانية في الدورة الدموية بعد استئصال السرطان، والتي تكاثرت لسرطان جديد بتنشيطها بمواد كيماوية ناتجة عن طبخ اللحوم الحمراء. كما تعتبر البدانة السبب الثاني بعد التدخين لارتفاع نسب السرطانات. فقد قدرت دراسة جمعية السرطان الأمريكية لعام 2003 بأن البدانة تؤدي لارتفاع نسبة الإصابة بالسرطانات لحوالي العشرة إضعاف، ولتزداد هذه النسبة لاثني عشرة ضعفا في المرأة. كما اعتبرت الدراسة التي نشرتها مجلة الممرضات للدراسات الصحية بأن النشاطات الرياضية هي سببا هاما للوقاية من السرطانات، حيث أكدت هذه الدراسة بأن النساء الذين مارسن الرياضة لمدة نصف ساعة يوميا، انخفضت إصابتهم بسرطان القولون بنسبة 30%، بالإضافة لانخفاض نسبة إصابتهم بسرطان الثدي.
ولنتفهم بعض التفاصيل الدقيقة لأمراض السرطان، ليسمح لي القارئ العزيز بوقفة قصيرة. يتكون جسم الإنسان من وحدات ميكروسكوبية صغيرة تسمى بالخلايا، يوجد بها سائل بروتيني لزج، تسبح في محيطه مصانع لإنتاج المواد الكيماوية، وفي وسطها كرة تحتوي على عصيات من المورثات. وتتكون المورثة من أقراص من الجينات. وتقوم هذه الجينات بالسيطرة على وظائف الخلية وتكاثرها. وتستمر هذه الخلايا بالتكاثر وذلك بانقسامها وبشكل متوازن دقيق. وحينما يضطرب هذا التكاثر تبدءا الخلايا بالانقسام السرطاني بدون توقف، فيزداد عددها بشكل هائل، وتنتشر في مختلف أعضاء الجسم عن طريق الأوعية الدموية واللمفاوية، فتتلف الأعضاء المختلفة كالكبد والرئة والمخ، فترهق الجسم وتستأهلك غذائه وتفرز فضلات وسموم تتلف وظائف أعضاءه.
ويحدث التكاثر السرطاني حينما تسوء وظيفة الجينات بسبب وراثي أو مكتسب، لتؤدي لانقسام مضطرب. ويكون السبب اضطراب وراثي في حوالي 10% من السرطانات، بينما تبقى سبب معظم الحالات الأخرى سموم خارجية مكتسبه. وتوجد أنواع مختلفة من الجينات، فبعضها تنشط نمو الخلايا والبعض الآخر تثبطه، وحينما يحدث خلل في الجينات المنشطة للنمو تؤدي لإرسالها لأوامر للخلية لزيادة انقسامها بشكل عشوائي مستمر وليبدءا تسطرنها. وحينما تتوقف الجينات المسئولة عن تثبيط النمو عن العمل يزداد النمو العشوائي أيضا وتستمر عملية التسرطن. وبتعبير آخر، فهناك فرامل في الخلية تثبط النمو وهناك دواسة تسرع النمو، فإذا تعطلت فرامل الخلية انقسمت بشكل عشوائي، وحينما يضطرب دواسة السرعة تسرع الخلية في انقسام سرطاني مخيف. ولو تذكرنا بأن هناك ثلاثين تريليونا من الخلايا في الجسم، وتنقسم عشرة آلاف تريليون مرة خلال فترة حياة الإنسان، فتؤدي لتواجد عشرة الآلف تريليون فرصة لاضطراب فرامل ودواسة سرعة الخلية وهيجان نموها السرطاني.
وتتعرض عمل الجينات لاضطرابات مختلفة، فمثلا جين التيلومير، الذي يوقف عمل الخلية الطبيعية ويؤدي لموتها بعد انقسامها خمسين مرة، وحينما يضطرب عمله تستمر الخلية في التكاثر بدون توقف. وهناك جين أخر مسئول عن التصاق الخلايا يبعضها، وحينما يضطرب عمله تنفصل الخلايا المتسرطنة عن بعضها وتنتشر في الجسم لتتلف أعضائه. وتصاب الجينات بالتلف، حينما يتعرض الجسم للتلوث بمواد كيماوية كالتبغ والمواد الحافظة للأغذية وملوثات مداخن المصانع وعوادم السيارات، والمواد البلاستيكية الملوثة لمياه الشرب. وأكتشف الباحثون مادة مرافقة للسرطانات تسمى بالسيتوكين، وترتفع نسبة هذه المادة في الدم مع البدانة، وتنخفض بالرياضة المنتظمة. كما تنخفض نسب الهرمون الأنثوي الاستروجين في الدم بممارسة المرأة الرياضة المنتظمة، مما يؤدي لخفض نسبة الإصابة بسرطان الثدي. وأنهى الكاتبان مقالهما بالقول: quot;لقد قل التدخين خلال الجيلين الماضيين في الولايات المتحدة حينما أكتشف خطر التبغ. وقد نحتاج لجيلين آخرين لنستمر في تقليل نسب التدخين، ونحسن تغذيتنا ونقلل أوزاننا ونتابع رياضة منضبطة. وإذا تحقق ذلك فعلا، سينظر أحفادنا لتاريخ أجدادهم ويتساءلون: لماذا اخذ منهم هذا الوقت الطويل للوقاية من مرض السرطان الذي يخيف الجميع، والذي كان من الممكن الوقاية منه بخطوة بسيطة، وهي تغير نمط الحياة.quot; تلاحظ عزيزي القارئ بان تغير نمط الحياة في الأكل والشرب والامتناع عن التدخين والقيام بنشاط رياضي منتظم يؤدي لضرب عصفوريين بحجرة واحدة، فيقي الجسم من الإصابة بالسرطان، كما يحميه من أمراض القلب والأوعية والتي تسبب جلطة القلب والشلل الدماغي.
سفير مملكة البحرين في اليابان