إذا كانت مصر كنموذج لدول الشرق الأوسط يتصدر عناصر أزمتها أو ورطتها الحضارية الراهنة عنصر تفشي ما يعرف بتيار التأسلم السياسي، والذي وإن كان يصنف ضمن منظومة الثقافة، إلا أنه يلقي بظلاله أو تبعاته على كافة ميادين الحياة بالمنطقة، بداية بالجانب الأمني، المتمثل في توالد التنظيمات الإرهابية بممارساتها المحلية والعالمية، مروراً بتأثيراته على المسيرة الاقتصادية وآفاق التعاون مع العالم، الذي تراه تنظيرات ذلك التيار كدار حرب وكفر، مروراً بما يترتب على تفشي ذلك الفكر من قلاقل واضطرابات اجتماعية، تتخذ في أحيان كثيرة صورة اعتداءات همجية على المواطنين الأقباط المسالمين، وحرق لمتاجرهم ومساكنهم وكنائسهم، وفي الجانب الثقافي نرى الحجر على الفكر والمفكرين، ومطاردتهم قضائياً وتجريمهم أو تكفيرهم اجتماعياً، نهاية بتأثيرات ذلك التيار على مسيرة التحديث السياسي والديموقراطي، بما يشكل عقبة كأداء في طريق التطور، بل ويستخدم كفزاعة تبرر تسلط أهل الاستبداد والفساد، باعتبارهم الخيار الأهون شراً، فإننا لابد والحالة هذه أن نتتبع جذور ذلك التيار وآليات عمله، علنا نستطيع بعد التشخيص الصحيح أن نجد الوسيلة المثلى للتعامل معه.
دأبنا ndash; ربما جميعاً- على إسناد الحرائق التي يشعلها هذا الاتجاه في البلاد، وعلى رأسها الاعتداءات الطائفية على الأقباط، إلى جماعة الإخوان المسلمين المحظورة رسمياً، ومطلقة اليد في البلاد فعلياً، ولا ننسى دائماً بعد ذلك أن نشير إلى أن هذا الفكر المدمر هو فكر وهابي وافد على مصر، وغريب عن تربتها وسيكولوجية أبنائها، ونحن لا نستطيع أن نرمي بالخطأ مثل هذا الكلام، وإن كان يمثل نظرة متسرعة عجولة، تتكاسل عن الغوص إلى أعماق تلك الظاهرة الأخطر، ليس في مصر وحدها، وإنما في كل المنطقة والعالم، بما يحتم علينا أن نحاول رسم خريطة لروافد ذلك التيار ومنابعه، المتغلغلة كورم سرطاني في جميع أنحاء الجسد المصري.
يلزمنا بداية أن ننظر لتيار التأسلم السياسي كظاهرة مركبة، يمكن تصنيفها عبر أكثر من عنصر أو مظهر:
bull;التيار الفكري: الذي هو مجموعة الأفكار والمقولات، التي تنبع من مصدر واحد، وهو النظر إلى الحياة بكل عمومياتها وتفصيلاتها من خلال النظرة الدينية، وبالتحديد من خلال فهم معين ndash;دون سواه- للدين الإسلامي، بحيث يعدو كل فكر يخرج عن منظومة الأفكار هذه، إما موضع رفض، باعتباره استحداثاً وابتداعاً في دين الأمة، وإما يكون مطلوباً لقبوله إيجاد صلة نسب أو ارتباط ولو غير مباشر بمنظومة المقولات الدينية المتفق عليها من قبل ذلك التيار، ولا شك أن أخطر أو أهم ما يميز هذا الفكر، هو إصراره على الهيمنة، ليس على المؤمنين المسلمين فحسب، بل والهيمنة على كل من يقيمون في أرض الإسلام حسب تعبيرات أصحاب ذلك الفكر، علاوة على تطلعاته المعلنة للسيطرة على العالم أجمع، ليس عبر الدعوة بالتي هي أحسن، وإنما باستخدام كل أنواع القوة، لإرغام الناس على قبول الحق الذي لا حق غيره، من وجهة نظرهم بالطبع.
bull;التنظيمات: وهي بالأساس تنظيم جماعة الإخوان المسلمين المحلي والعالمي، والذي يعتبر الحاضنة الأولى أو المدرسة الابتدائية، التي تتخرج منها بعد ذلك الكوادر التي تشكل كافة التنظيمات المسلحة العديدة، وأهمها تنظيم القاعدة والجهاد الإسلامي والجماعة الإسلامية، ثم حزب الله كطبعة شيعية من ذات الفكر السني الأساس، ورغم ما نشاهده أحياناً من اختلافات وربما خلافات فكرية بين مختلف تلك الفصائل، إلا أنها تعمل معاً في تكامل أو هرمونية، عبر تشابه الأدوار وتنوعها وظيفياً وجغرافياً.
bull;الأنصار: وهم غير المنتمين تنظيمياً إلى جماعة الإخوان أو أي من تشكيلاتها، لكنهم مؤمنون بأفكارها ومقولاتها كحقائق مطلقة، باعتبارها هي الدين الإسلامي ذاته، وليست مجرد تفسير خاص ومتطرف له، وبعض هؤلاء من القادمين بعد العمل لفترة في دول الخليج، حيث تعرضوا لغسيل مخ متعمد مباشر، أو غير مباشر عبر التواجد في بيئات منغلقة، يحتكرها ذلك التيار كفكر وحيد، وبعضهم الآخر ممن لم يغادر مصر، ووجد في هذا الفكر ضالته المنشودة، التي يحتاجها ليرى من خلالها العالم ليفهمه، ويستند إليها كمرشد في بحر العالم الهادر حالياً بكل أنواع العواصف الفكرية والعلمية، بتأثيراتها السياسية والاجتماعية بالغة الاختلاف عن كل ما سبق للشرق المستنيم معرفته.
هؤلاء منتشرون أو متغلغلون في كل أنحاء المؤسسات الإعلامية والدينية وجهاز الدولة المصرية البيروقراطي، ويشكلون عصباً أساسياً في سلطات النظام الحاكم الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، كذا فيما يسمى بالحزب الوطني الديموقراطي الحاكم، علاوة على المنخرطين ضمن صفوف معظم أحزاب المعارضة، حتى تلك التي ترفع رايات الليبرالية، مع بعض الفروقات بالطبع في درجة الالتزام بكامل مقولات ذلك التيار، ويشكل هؤلاء الأخيرين ظهيراً بالغ التأثير والخطورة لمساندة تيار التأسلم السياسي، بصفتهم البوابة الأخيرة التي تجعل فرص تسرب الأفكار المختلفة والليبرالية شبه منعدمة.
bull;الانتهازيون: هم المنخرطون في العمل العام، سواء الإعلامي أو النقابي أو السياسي أو حتى الاقتصادي، والذين ارتأوا أن يركبوا موجة التأسلم، ليس عن قناعة فكرية، ولكن ليسوقوا بها أنفسهم في بيئة قد تشربت حتى النخاع بهذا اللون من الفكر والتوجهات، ويأتي على رأس قائمة هؤلاء أصحاب ما عرفناه باسم شركات توظيف الأموال، والتي جمعت الأموال الطائلة من الشعب المصري، بدعوى توظيفها في اقتصاد إسلامي حلال، ومن بينهم أيضاً بعض من أهل اليسار الذي تجاوزه الزمن، ووجدوا أنفسهم أقرب فكرياً لفكر فاشي متوجه بالعداء نحو الآخر، ويحقق لهم في نفس الوقت رواجاً شعبياً افتقدوه حتى في أوان ازدهارهم، علاوة على ما يحققه الالتحاق بالركب من مكاسب مادية ربما لم يحلموا يوماً بها.
bull;الجماهير: هم قطاع عريض من الشعب المصري المتدين بطبيعته، وأغلبهم لا وقت ولا مقدرة لديه لدراسة دينه، ويعتمد على الخطاب الديني الشائع، والذي يلقن له ليل نهار، سواء في المساجد أو وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وبالتالي ليس أمامه إلا أن يستمع ويطيع، أو على الأقل يصمت على ممارسات ذلك التيار الفاشية، سواء الموجهة ضد الأقليات المسيحية والبهائية والشيعية وغيرها، أو الموجهة ضد المفكرين والأدباء الذين يلصق بهم رؤوس التيار تهمة الكفر وإهانة الدين، ولا يكون أمام الجماهير غير تصديق تلك الصفات، خاصة أن شعبنا يؤمن بمثل: quot;أعطي العيش لخبازةquot;، فإذا كان خبازو الفكر الديني في بلادنا يرون وجوب تضييق الخناق أو مطاردة هؤلاء أو أولئك، فلابد أن نتوقع أن تلتزم الجماهير الصمت المؤيد في أسوأ الفروض، أو إشاحة الوجه بحياد يلونه عدم الرضى في أحسنها.
تلك هي فيما نعتقد أهم معالم خريطة تيار التأسلم السياسي داخل مصر، والتي نستطيع أن نخرج منها ببعض نتائج، لابد وأن تكون مفيدة لنا في تعاملنا مع الحالة، وفي بحثنا عن حل يوقف ما يترتب عليها من مظاهر، أخطرها الاعتداءات على الأقباط، والتضييق على العديد من الأقليات الطائفية أو الفكرية، مثل البهائيين والشيعة وأهل القرآن، ثم مطاردة الفنانين والمفكرين، مثل الراحل نجيب محفوظ ومن قبله طه حسين والشيخ على عبد الرازق حتى الإمام محمد عبده، ثم د. نوال السعداوي ونصر حامد أبو زيد إلى وزير الثقافة المصري، وبوجه عام كل من يتجرأ على الخروج على الحدود التي وضعها ذلك التيار، بصفتها هي صحيح الدين، أو المعروف من الدين بالضرورة:
bull;مسألة إسناد رواج ذلك الفكر إلى الشحن الوهابي والبترودولار القادم من خارج مصر، ينبغي أن نراعي فيها أن أي قادم يلزمه لكي يزدهر عناصر منزرعة ومقيمة في الداخل، وإلا لذهب مع الريح، فالأفكار الليبرالية أيضاً تطرق أبوابنا الآن بقوة، كما سبق وأن طرقتها الأفكار اليسارية والشيوعية، لكن لا هذه ولا تلك أتيح لها ما حققه ذلك الفكر من رواج، وليس هذا إلا لافتقادها إلى الأرضية الشعبية الثقافية التي تكفل لها الانتشار، نقول هذا لأن إلقاء التبعة على الخارج مع تجاهل العوامل الداخلية، لن يؤدي بنا إلى مقاربة صحيحة ومجدية، كما يحشر الليبراليين في نهج فكر واحد مع أصحاب نظرية المؤامرة اللعينة والمتوطنة في بلادنا، التي تعجز وتجبن عن مراجعة الذات، وتستسهل إلقاء اللوم على طرف خارجي.
bull;نفس هذا يقال على تحميل تنظيم جماعة الإخوان المسلمين المحظورة مسئولية ما يحدث من جرائم تعصب وكراهية، ففي استسهال إطلاق هذا القول على عواهنه، لا نقول ظلم لتك الجماعة، فهي أبداً ظالمة وليست مظلومة، لكننا بهذا نعطيها حجماً أكبر من حجمها الحقيقي، فتبدو وكأنها ndash;كتنظيم- تمسك بكل زمام الأمور في مصر، فالحقيقة أنها أقل من هذا بكثير، وإن كانت بتنظيمها رائع الانضباط والفعالية، تقع في القلب من مجموعة العناصر والشرايين، التي تصب في النهاية في مستنقع الكراهية والتعصب في هذا الوطن.
bull;لا بأس أن نلقي اللوم على الدولة لصمتها العاجز عما يحدث، والذي يتخذ في أحيان كثيرة صورة التشجيع أو الرضى عما يرتكب من جرائم، لكن ينبغي ألا يغيب عنا ونحن نلومها أنها ليست الدولة المحايدة المفترضة التي قد نتصورها، لكنها الدولة التي يتشكل قوامها ودستورها وقوانينها من مكون غير هين من فكر التأسلم السياسي ورموزه، وأن مجرد استنهاض الدولة أو حثها على أداء دورها بالصورة التي نتوقعها يبقى أمراً عقيماً، ما لم نتمكن من الوصول إلى نظام حكم وحكام مختلفين، ويعملون في ظل دستور وقوانين مختلفة، كما يلزمنا أيضاً ألا يغيب عنا أن الدولة ليست العنصر الوحيد، ولا حتى العنصر الحاسم، خاصة إذا ما كنا إزاء أمر تلعب فيه ثقافة شعب دوراً رئيسياً، وأن الإجراءات الأمنية الرادعة وإن كانت مطلوبة وبإلحاح، لن تكون وحدها كافية لتغيير وجهتنا عما نسير فيه نحو هاوية.
تلك كانت بعض -وليس كل- الأخطاء في نهج معالجتنا لقضية مصر ndash;والعالم- الرئيسية، وهي وضع نهاية لتيار التأسلم السياسي وممارساته، لكن الأمر ليس بسيطاً أو هيناً بأية حال، فالمقاربة المطلوبة يلزمها لكي تكون صحيحة ومجدية أن تتعامل مع جميع العناصر السابق عرضها في هذه السطور، وأن يتم التعامل معها بصورة شاملة ومتوازية ومتزامنة، رغم ما قد نضطر إليه من تصنيفها وفقاً لدرجة خطورتها وعمق تأثيرها، وربما أيضاً وفق أيها أكثر سهولة وأدناها قرباً من إمكانية الإصلاح، ذلك أن التأثيرات العرضية بين تلك العوامل وبعضها البعض، تجعل من المستحيل تحقيق نجاح في التعامل مع إحداها، مع بقاء باقي العوامل فاعلة.
[email protected]