في نهاية شهر مايو الماضي، حذر الأستاذ محمد حسنين هيكل فى محاضرته، التى ألقاها بنادى القضاة النهرى، من هجرة المسيحيين من منطقة الشرق الأوسط، وقال : quot; إن عدد المسيحيين قد انخفض من 42 % قبل 30 عاماً إلى 20 % الآن، وهذا النزيف أمر خطير جداً، ستظهر تداعياته عاجلا quot;.
ولم نسأل أو نسائل أنفسنا، لماذا هاجروا؟ وإلي أين؟، وكأن هناك موافقة صامتة وارتياح ضمني علي تركهم لبلادهم، أو قل نفيهم الاختياري، ولسان حال الجميع quot; بركة يا جامع quot; وquot; البلد الي تودي quot;!
فجأة تذكرناهم، بعد أن أصبحوا كألم الأسنان، يئنوا علينا من آن لآخر، ولم يدر بخلدنا (أن ما يقمع لا يختفي أبدا) كما قال الداهية فرويد، وquot; جاك دريدا quot; من بعده، quot; فإن ما يقمع لا يختفي لكنه يعود دائمًا كي يزلزل كل البناء القائم، مهما كانت درجة الاستقرار التي يبدو عليها quot;.
ينسي أو يتناسي من يهاجم أقباط المهجر، وهم كثر، ويتهمهم بأبشع التهم كالعمالة والخيانة، أنهم مواطنون مصريون، محبون لبلدهم الأول، ورئة ثالثة لم يستفد منها حتي الآن، وان عدم التحاور معهم والاستماع إلي وجهات نظرهم، هو خصم من رصيد مصر ومستقبلها.
وان من الممكن، وبسهولة، ان يشكلوا جسرا حيويا، بخبراتهم وعلاقاتهم ومراكزهم، بيننا (مسلمين ومسيحيين وأصحاب ديانات أخري، ولا دينيين أيضا) وبين الغرب، في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي الأنفتاح علي العالم المتقدم، ومد جسور التفاهم والتواصل بيننا وبين الآخر، وليس نسفها أو هدمها.
علي ألا ننسي انهم يحملون في الوقت نفسه جنسية دولهم الجديدة وثقافتها، التي تتميز في الغالب بالحرية والديموقراطية، ليست كشعار أجوف وفضفاض، وإنما ممارسة حياتية فعلية، وهم حين يتظاهرون فإنهم يستخدمون آليات هذه الديموقراطية ووسائلها في التعبير والاحتجاج، وفقا للقانون والدستور quot; هناك quot;، وبإختصار يمارسون حقوقهم بحرية.
التهم الأبرز الموجهة إليهم الآن هي : تأليب أقباط الداخل وإثارة النعرات الطائفية، فضلا عن الرأي العام العالمي والدول الغربية، لفرض عقوبات اقتصادية علي مصر، بغرض الضغط عليها لتحقيق مطالب الأقباط. ويتغافل من يكيل هذه الاتهامات، عن أن فائض معاناة الأقباط، خاصة بعد 11 سبتمبر 2001، فرض نفسه بقوة داخل مصر وخارجها، وأن الخط الفاصل الذي كان يميز بين الصراعات الداخلية والصراعات الدولية قد اختفيrlm;، أوأوشك علي الاختفاءrlm;، وهو الخط الذي بقي واضحا حتي مطلع الألفية الثالثة ,rlm; إلي حد كبيرrlm;، قبل ظهور ثورة الاتصالات والانفجار الإعلامي.rlm;
فالقضية القبطية أصبحت مطروحة في مختلف وسائل الإعلام المقروء والمسموع والمرئي، خصوصا الفضائيات والأنترنت، وهو ما نلمسه ونقرأه ونشاهده الآن، ولم تعد صحيفة quot; وطني quot; الأسبوعية المحلية، التي ظهرت قبل خمسين عاما، هي فقط لسان حال الأقباط داخل مصر، بل أصبحت صحف المعارضة والصحف المستقلة، وبعضها يتميز بميوله الإخوانية، تجعل من مشاكل الأقباط مادة أساسية، ومانشيت رئيسي.
وربما يرجع البعض السبب المباشر إلي حاجة الإعلام إلي وقود حيوي وقضايا ساخنة، لزيادة نسب التوزيع والمشاهدة، وهي حيلة نجحت في وقت من الأوقات، لكن هذا السبب بدأ في التلاشي بمرور الوقت، مع تسارع وتدفق وتيرة الأحداث الطائفية في مصر، التي أصبحت تتزايد يوما بعد يوم، بسبب الاصرار علي التعامل مع القضية القبطية أمنيا وليس سياسيا، مما جعل الأمن طرفا أساسيا في الأحداث، ومتهما بإستمرار بالتقصير والمحاباة، وهذا هو عين الخطأ والخطر. ناهيك عن البطئ الشديد في التعاطي مع مشاكل ملحة وعاجلة للأقباط، كقانون الأحوال الشخصية وقانون بناء دور العبادة الموحد وقانون عدم التمييز الديني، وكلها تدعم فكرة المساواة السياسية وترسي مبدأ المواطنة.
وبالتأكيد هناك أكثر من جهة وقوي تجاهد من أجل إبقاء الوضع علي ما هو عليه، بل وتعمل علي إذكاء نار الفتنة في الداخل، كما توجد بعض التيارات التي تركب موجة هذه الاحتجاجات في الخارج، لتحقيق مكاسب مادية وسياسية لا تصب في صالح مصر والمصريين في النهاية، بالإضافة إلي العديد من القوي الأخري التي تعول كثيرا على دور التحركات القبطية في أوروبا وأمريكا بالذات، لانه اذا كتُب لهذه المظاهرات والمطالب النجاح، فإنه لن يتغيير وضع أكبر أقلية في مصر والشرق الأوسط فقط، وربما في العالم، وانما سيكون لهذا التغيير دورا كبيرا في تغيير وضعها، وربما في دعم الديمقراطية في منطقة الشرق الاوسط.
المشهد كله يشير إلي ان تجاهل هؤلاء الأقباط ومطالبهم لم يعد مفهوما ولا مبررا، كما أن التعامل معهم علي أنهم مارقون يسيئون إلي مصر في الخارج، هو قمة الخطأ والاستسهال والعجرفة. لابد من قطع الطريق وبسرعة علي كل من يستفيد من استمرار هذه الأزمة المحتدمة (أزمة الثقة) المتبادلة بين أقباط المهجر والدولة المصرية، ونصف الطريق إلي الحل هو اختيار ممثلين من الجانبين لهم مصداقية، وقدر من التوافق أوالاتفاق علي نزاهتهم وحكمتهم، فالمصداقية تسبق الصدق دائما، والتوافق شرط لضروري لإنجاز المهام الصعبة.

أستاذ الفلسفة جامعة عين شمس
[email protected]