بعيدا عن السياسة وربما هروبا من المشاهد الدولية المأزومة حول البسيطة عامة، وتلك التي تجتاح المنطقة العربية والشرق أوسطية خاصة، لكنه هروب للامام وليس الخلف، هروب يريد صاحبه أن يجد منفذا للإنسان العربي بصورة تجعله يأمن على حاضره وغده ومستقبله بعد أن بات في الآونة الأخيرة كقصبة تهزها الريح وتحركها الأمم وتتلاعب بمقدرات شعوبها الاستراتيجيات الأجنبية وهو فيها خلوا من آليات تمكنه من مجابهة الحاضر الأليم أو المستقبل غير واضح المعالم.
ويبقى التساؤل ما هو الحل للنهوض من الكبوات التي أعاقت العالم العربي ومنعته من أن يحتل مكانا بين مصاف الأمم الرائدة والدول المتقدمة؟
وفي هذه السطور نتوقف في المساحة الواقعة مابين العلم والعقل وهما المفتاح الحقيقي لأي نهضة حقيقية في أي موضع أو موقع على الأرض ولهذا نذهب في طريق العلم مع الدكتور احمد زويل ورؤيته لعصر العلم ونعود للماضي مع الراحل الفيلسوف والمفكر العربي الكبير زكي نجيب محمود في تطلعه لقصة العقل العربي.
ولتكن البداية بحسب الترتيب الزمني للأحداث مع فيلسوفنا الكبير إذ يقول في الفصل الخامس من مؤلفه الشهير quot;قصة عقلquot;، quot;منذ حملت القلم كاتبا في صدر الشباب أدركت في شئ من الغموض أولا وفي كثير جدا من الوضوح أخرا الفرق بين استخدام اللغة، فالعربي بصفة عامة اشد ميلا بحكم ثقافته إلى العبارة المثيرة للوجدان منه إلى العبارة المستندة إلى العقل وأدركت فوق هذا وذلك أن في مقدمة الإصلاح إذا أردنا إصلاحا أن نربي أجيال الجديدة على وقفة أخرى، يفرق لنفسه فيها تفرقة واضحة بين ما هو عام فيحيل إلى العقل وأدواته، وما هو خاص فلا باس عندئذ في الركون إلى لغة الشعور.
ويتساءل ذكي نجيب محمود رحمه الله في أوائل الثمانينات 1982 والتساؤل هنا لا ينسحب على مصر فحسب بل على بقية البلدان العربية ـ بالقول لماذا انقضت على مصر منذ بدأت نهضتها الحديثة حتى الآن مائة وخمسون عاما على الأقل ومع ذلك لا نستطيع أن ندعي بأنها تشربت من ثقافة العصر الحديث كما كنا نتمنى لها أن تتشربه، لماذا أصبح المتعلمون في مصر يعدون بعشرات الملايين ومع ذلك فإذا ما أمعنا النظر في هؤلاء المتعلمين أنفسهم ودع عنك من لم ينل حظا من التعليم وجدنا نفورهم من رؤية الحياة بنظرة علمية تلتزم منطق العقل، لا يقل عن نفور أجدادهم الذين غمرتهم موجات الظلام إبان القرون الثلاثة السابقة على بدء النهضة الحديثة في عصر محمد علي.
ما العمل إذا أردنا حقا الخروج من عصورنا الوسطى إلى عصر من النهضة الحقيقية؟، غير انه قبل الإجابة نستعير من المفكر والمعلم في كتابه العمدة المشار إليه سابقا عدة مشاهد تشبه حال غالبية أن لم يكن كل المجتمعات العربية في الوقت الراهن إذ يقول حال مجتمعاتنا اليوم تشبه ساعة ميكانيكية تدور تروسها الداخلية على غير ما تسير عليها عقاربها، أو كما موسيقى تعزف في حفل راقص فيما من يرقص على أنغامها يؤدي رقصة أخرى وباختصار فإننا نقلنا عن الغرب كثيرا من ظواهر ثقافته وحضاراته لكننا لم نغير من وجهات النظر الداخلية بما يتناسب مع تلك الظواهر فكانت المفارقة العجيبة، فقد ترى عالماً في مركز من مراكز البحوث أو في أحدى الجامعات يعرف جيدا ما عليه عمله لينخرط مع سائر الناس في تيار الحياة وجدته يؤمن بالخرافات إيمان من لم يحصل من العلم حرفا واحدا.
هل نحن إذن في حاجة إلى ثورة فكرية إصلاحية تبعدنا عن قشر الحضارة ومنطق الطبلة والربابة على حد تعبير الشاعر الكبير نزار قباني؟
لامناص إذن من تلك الثورة وحدوثها ليعتدل الأمر ويتوازن النهج العقلاني في بلادنا مع نظيره في العوالم والعواصم المتقدمة والتي نقلنا عنها قشرة الحضارة وبقيت العقول جاهلية في بداوتها الأولى.
أما الحديث عن عصر العلم فيقودنا إلى احد العلماء العرب المحدثين الدكتور احمد زويل الفائز بجائزة نوبل في الكيمياء والذي يرى أن تاريخ العرب ملئ بالإنجازات، فقد انشاوا حضارة دولية متعددة الأعراق، أصبحت في العصور الوسطى أعظم قوة اقتصادية في العالم وبلغت أيضا أعلى مستوى في العلوم وساهمت في النهضة الأوروبية بقسط وافر فما هي الأسباب التي أدت إلى تخلف العرب عن ركب التقدم في العصر الحديث؟
يقول عالمنا هناك أسباب سياسية، عالمية وإقليمية، ويقر بان الاستعمار والاحتلال والحرب قد أعاقت جميعها التقدم في الدول العربية غير انه بعد زوال تلك العوائق لم تتوافر النظم الجديدة ولا المؤسسات التي تتسم بقدر كاف من الديمقراطية، كما لم تتح الفرصة للاستفادة من أفضل إنتاج الفكر البشري وهناك سبب أخر مهم هو الإهمال الذي لقيته مؤسسات العلم مثل الجامعات والذي أفضى إلى تضاؤل القدرة الإبداعية التي تغذيها تلك المؤسسات.
والمؤلم حتى البكاء في مشهد عصر العلم العربي الراهن أن الإحصائيات الأخير تؤكد أن عملية الإبداع العلمي إنما تنكمش بشكل مشين فوفقا لمعهد المعلومات العلمية فقد بلغ مجموعة الأوراق العلمية التي نشرت في كافة أنحاء العالم خلال السنوات الخمس الأخيرة 3,5 مليون ورقة كان توزيعها بالنسب المئوية كما يلي، الاتحاد الأوروبي 37% الولايات المتحدة 34% دول أسيا على المحيط الهادي 21% الهند 2,2% إسرائيل 1,3%.
أما مساهمة العالم العربي الذي يبلغ مجموعة سكانه 280 مليون نسمة موزعين على 22 بلدا، فهي اقل من مساهمة إسرائيل التي لا يتعدى مجموع سكانها 6 ملايين نسمة، إذ تتراوح مساهمة كل من البلدان العربية بين صفر في المائة quot; اليمن quot; و 3, في المائة مصر و 03, في المائة في معظم البلدان ونسبة صفر في المائة هنا تعني أن عدد الأوراق لا يستحق الذكر في الإحصاءات.
وإذا كان الدكتور زكي نجيب محمود فيلسوف ومنظرا للعقل العربي فان الدكتور احمد زويل بما له من حيثية علمية وعالمية ينظر بدوره أيضا شارحا وموضحا لاقتراحات حقيق بها أن تقيم نهضة حقيقية علمية تكون بوابة للعالم العربي لدخول القرن الجديد الحادي والعشرين.
أول ما يوصي به زويل هو إنشاء نظام تعليمي جديد يركيز على التفكير الناقد والمنطقي واستحداث تعليم علمي يرتكز على رؤية جديدة للقيم الأخلاقية الاجتماعية والثقافية والهدف من ذلك هو إيجاد قوة عاملة متعلمة مؤهلة تتمتع بالمهارات التي يتطلبها القرن الحادي والعشرون وتلتزم بالأخلاق الاجتماعية وبالعمل الجماعي.
وثانيا إنشاء مراكز تفوق جديدة تكون على مستوى نظيرتها في العالم المتقدم وان تركز على المجالات المهمة للمنطقة والمشاركة العالمية.
وثالثا إنشاء صناعات جديدة تستند على العلم والتكنولوجيا المستحدثة والمتطورة محليا لا على التكنولوجيا المستوردة من الخارج.
رابعا إنشاء مؤسسة وطنية للعلم والتكنولوجيا، فلابد من استحداث مؤسسات وطنية لدعم البحث والتطوير في مجال العلم والتكنولوجيا.
خامسا إنشاء الأكاديمية العربية للعلوم والتي يجب أن تضم أفضل الخبراء في مجال العلم والتكنولوجيا في العالم العربي وتتيح لهم تبادل المعرفة مع نظرائهم في شتى أنحاء العالم.
ويبقى قبل الانصراف القول انه إذا كان الفيلسوف زكي نجيب محمود قد جعل العقل محرابا فإن زويل تطلع إلى العلم بوصفه طقس الصلاة في ذلك المحراب إن جاز التعبير فبغير العقل الناقد والعلم النافذ لا مجال لأمة العرب أن ترتقي، ولا أمل في نهضة منشودة وربما لن يغفر التاريخ أو الأجيال العربية القادمة ضياع ثروات مادية وتقصير عن تسخيرها لخدمة العقل والعلم كبوابة سحرية للدخول في لجة دول العالم المتقدم.
[email protected]