نادرةٌ هي الأنباءُ السعيدة في العالم العربي. ولذا جاء خبر طلب المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو أوكامبو، اعتقال الرئيس السوداني عمر حسن أحمد البشيرrlm;، تمهيدا لمحاكمته بتهمة ارتكابه جرائم ضد الإنسانية في إقليم دارفور، ليثلج قلب أي إنسان لديه أدنى اهتمام بحقوق الإنسان.
وكما هو متوقع تماما، فقد استنكر الرئيس السوداني القرارrlm; ووصفه بأنه quot;يهدف إلي إلهاء السودان عن خطواته التي انخرط فيهاrlm;quot; (!!) واعتبره خطوة كيديةrlm; (!!)rlm; وقالrlm;:rlm; quot;إن رسالتنا للذين يريدون وقف مسيرتنا هي الاستمرار في التنميةrlm;،rlm; وعدم الالتفات لمثل هذه الدعواتrlm;quot;rlm; (!!). وخرجت في الخرطوم مظاهرات، تأييدا للمتهم الذي شارك فيها بالرقص! كما استنكرت جامعة الدول العربية الطلب، وسارع الاتحاد الأفريقي ومنظمة المؤتمر الإسلامي بالإعراب عن قلقهما البالغ إزاء هذا القرار، وحذرا من تداعياته الخطيرة...
الظاهر، بناء على ردود الأفعال الإعلامية لهذا النبأ (التي راجعنا العديد منها)، أن المهتمين بالإنسان وحقوقه مازالوا قلة نادرة في العالم العربي التعيس.. وسنتخذ كنموذج لتك الردود مقالا واحدا، بعنوان quot;الآثار السلبية لطلب اعتقال البشيرquot; نشر في صحيفة quot;قوميةquot; مصرية (في 15 يوليو) يعبر عن غالبية التعليقات السائدة، وهو متخم بأنواع الجهل والكذب والعبث الحنجوري المعتادة. وفي تناولنا له لا نسعى فقط لتوضيح بعض الأمور بل، وهو الأهم، استشفاف نوعية العقلية السائدة وكيف تتعامل مع مشكلة كهذه:
1ـ [المحكمة لا وصاية لها علي السودان لأنه ليس عضوا بهاrlm;].
نظام المحكمة الجنائية الدولية، الذي يطلق عليه quot;نظام روما الأساسيquot; (Rome Statute) والذي أعد في 17 يوليو 1998 ودخل حيز التنفيذ في أول يوليو 2002 بعد أن تم التصديق الدولي على معاهدة روما المؤسِّسة للمحكمة، ينص (المادة 12ـ أ) على إمكانية نظر المحكمة في قضايا تتعلق بجرائم ارتكبت زمنيا بعد تاريخ دخولها حيز التنفيذ. وينبغي أن تكون الدولة ـ حيث وقعت الجرائم ـ قد صدقت على المعاهدة أو، خلافا لذلك، (المادة 12 ـ ب) أن تكون القضية قد أحيلت للمحكمة بواسطة مجلس الأمن الدولي طبقا للفصل السابع لميثاق الأمم المتحدة (الذي يتيح للمجلس التدخل الاستثنائي في quot;الشأن الداخليquot; لدولة ما، إذا استدعت الظروف).
صحيح أن السودان لم يصدق على اتفاقية المحكمة وإن كان قد وقع عليها. إلا أن القضية أحيلت للمحكمة بناء على قرار مجلس الأمن رقم 1593 بتاريخ 31 مارس 2005 الصادر بالإجماع والذي ينص بوضوح على أن المجلس يعمل طبقا quot;للفصل السابعquot;. وقد جاء القرار لأن الجرائم استمرت لسنوات بالرغم من الاحتجاجات والضغوط الدولية ولم يُقدَّم فيها شخصٌ واحد للمحاكمة. بل، في تحد للمجتمع الدولي، قام رئيس السودان بتعيين أحد رجال الحكم المعروفين بقيادة الحملات في دارفور في منصب quot;وزير الشئون الإنسانيةquot; (!)
ويطلب المجلس في قراره من المحكمة الجنائية الدولية النظر في أوضاع دارفور اعتبارا من أول يوليو 2002 (تاريخ دخول معاهدة المحكمة حيز التنفيذ) ويُلزم حكومة السودان بالتعاون التام مع المحكمة والنائب العام، ويدعو الاتحاد الأفريقي وكافة الدولة المعنية بالتعاون وينص (مادة 6) على أن التحقيق يمكن أن يشمل مواطني الدول الأخرى غير السودان وغير الموقعة على المعاهدة.
وهكذا فقد مضت أكثر من ثلاث سنوات تمت فيها تحقيقات مفصلة ومستفيضة أدت بالمدعي العام لأن يقدم طلبه بتوقيف البشير مدعوما بالأدلة الجنائية الوافية طبقا للأعراف الدولية (وليس على طريقة أجهزة الشرطة والأمن quot;إياهاquot;...). وفي ملخص (من 10 صفحات) لصحيفة الادعاء قام المدعي العام بتقديم الأدّلة التي تبرهن على أن الرئيس السوداني قد ارتكب جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب في دارفور. ويرى المدعي العام quot;أن هناك مبررات معقولة للاعتقاد بأن البشير يتحمل المسؤولية الجنائية فيما يخص التهم الموجهة بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحربquot;. وتبين الأدّلة quot;أن البشير قد دبر ونفّذ خطة لتدمير جزء كبير من مجموعات الفور (الذين تنسب إليهم quot;دار فورquot;)، والمساليت، والزغاوة، لأسباب إثنية. وقد احتج بعض أعضاء هذه المجموعات، وشرعوا في التمرد. وإذ لم يتمكن البشير من هزم الحركات المسّلحة راح يهاجم الشعبquot;. ويقول المدعي العام quot;إن دوافع (البشير) سياسية في معظمها وهو يتذرع بحجة quot;مكافحة التمردquot;، لتنفيذ الإبادة الجماعيةquot;.
ومن دواعي الدقة توضيح أن أمر التوقيف لم يصدر بعد، بل إن المدعي العام قد تقدم بالطلب لهيئة المحكمة التي تملك وحدها سلطة القرار، وقد توافق كليا أو جزئيا على الطلب أو ترفضه تماما أو تطلب المزيد من الدلائل التي تسوغ الأمر بالتوقيف. وتاريخيا، فإن المحكمة قبلت طلبات المدعي العام السابقة (وعددها 11 حالة) ولذلك فمن المنتظر، لكن ليس من المؤكد، أن يقبل الطلب ويصدر أمر التوقيف خلال أسابيع. كما أن تنفيذ التوقيف وما يليه من محاكمة لا يعني quot;الإدانةquot;، لأن المحكمة يقوم عليها قضاة دوليون مرموقون وليس من الذين يحكمون طبقا quot;لتوجهاتهم الفكريةquot; أو quot;للتوجيهات السياسية التي تأتيهمquot;.
2ـ [رئيس الدولة لديه حصانةrlm;، ولا يمكن توجيه أي اتهامات إليه وهو في منصبه].
من قال هذا؟ لا يوجد في النظام الأساسي للمحكمة ما يعطي حصانة لرئيس دولة، بل إن أشهر المحاكمات في السنوات الأخيرة تتعلق برؤساء دول. وهي وإن تمت عبر محاكم خاصة (سلوبودان ميلوسوفيتش أمام محكمة يوغوسلافيا السابقة، وتشارلز تايلور أمام محكمة سيراليون) إلا أنها تستند إلى نفس مبادئ ونظام المحكمة الجنائية الدولية. والتحقيق الذي تجريه محكمة quot;اغتيال رفيق الحريريquot; يمكن أن يطول الرئيس بشار الأسد....
ومن ناحية أخرى، لا يوجد قانون في أي دولة محترمة في العالم يعطي رئيس الدولة حصانة بصورة مطلقة، وخاصة بشأن تهم مثل التي يتضمنها طلب توقيف البشير. وقد تكون هناك حالة عدم مساءلة و quot;حصانة طبيعيةquot; مفتوحة للحكام طبقا لعقليات وثقافة بلادنا ومنطقتنا العزيزة (راجع بكائيات أيتام صدام)؛ لكن هذا يتفق بصعوبة مع قواعد محكمة محترمة تستند إلى القانون الدولي..
وهل لنا أن نتساءل لماذا لم ترتفع الحناجر بمثل هذه الدفوع quot;المنطقيةquot; لكي لا يُقدم quot;الرئيسquot; سلوبودان مليوسوفيتش للمحاكمة في 2001 علما بأن ما فعله ضد المتمردين المسلحين الألبان في كوسوفو أقل بكثير مما ارتكبه البشير ضد الأهالي العزل في دارفور (وقبل ذلك ما ارتكبه هو وسابقوه من حكام السودان ضد سكان الجنوب)؟؟
3ـ [شعوب الأمة العربية والشعوب المحبة للسلام يساورها القلق من الآثار السلبية لطلب الاعتقال الصادر في حق رئيس دولة وأكبر رموزها في الوقت الذي يقود بلاده إلي مرحلة جديدة من التحول الديمقراطي].
لا نعرف من وما هي هذه الشعوب quot;المحبة للسلامquot; التي يمكنها أن تقبل بالتعامل مع الجرائم ضد الإنسانية طبقا للمزاج أو على طريقة quot;عفا الله عما سلفquot; ومادام الرئيس المؤمن عمر البشير بدأ quot;يقود بلاده نحو مرحلة جديدة من التحول الديموقراطي (!!)quot; فهذا خير وبركة ولتسعد أنفس مئات الألوف من القتلى والجرحى وملايين المشردين واللاجئين والمغتصبين والمباعين رقيقا بهذه المراحل الجديدة من التحول.
إن المحاسبة والمساءلة وتفعيل القانون تمثل الطريق الوحيد لضمان احترام القانون مستقبلا وعدم العودة إلى دائرة مفرغة من العنف والانتقام. فالسلام لا يمكن أن يتحقق بدون عدالة، وهما وجهان لنفس العملة.
ونلفت النظر إلى أن الهدوء والسلم لم يعودا في ليبيريا إلا مع محاكمة تايلور، وفي أوغندا إلا مع بدء المحكمة الدولية للتحقيقات مع أطراف الحرب الأهلية هناك.
4ـ [على حكومة السودان تقديم كل من ثبت تورطه في ارتكاب الجرائم التي وقعت في أحداث دارفور الدامية إلي القضاء الوطني السوداني ليقول فيهم كلمتهrlm;.؛ فهذه هي الحجة التي تتذرع بها المحكمة..].
إن المسئول الأول عما جرى ويجري في السودان هو رئيس الدولة بحكم موقعه وما ثبت (طبقا لصحيفة الاتهام) من ضلوعه شخصيا في توجيه عمليات ترقى إلى مستوى الجرائم ضد الإنسانية. وحتى لو تمت محاكمة quot;من ثبت تورطهquot; من أتباعه فهذا لا يعفيه من المسئولية التي لا تنقضي، في مثل هذه الجرائم، بالزمن أو بتلبيس التهم لآخرين.
لاحظ أن المقال لا يطالب بمحاكمة المذنبين لأنهم أذنبوا وارتكبوا من الجرائم ما يستوجب العقاب، بل لمجرد سد الباب أمام المحكمة (!!) وهذه العقلية الذرائعية تدل على حَوَلٍ فكري وعمى أخلاقي بلا شبيه، هو من أسس الداء الذي يقف وراء ما جرى ويجري في السودان وفي سائر أرجاء منطقتنا....
5ـ [توقيف رئيس دولة عربية تسعي جاهدة إلي حقن دماء أبنائها من خلال توحيد صفوفهمrlm;،rlm; ووأد الفتنة بين أعراقهم هو وصمة عار في حق المدعي العام].
ها هو يقفز للسطح أسلوب قعدات الصلح البدوية التي لا تفقه أسس العدل، ولا تهتم به أو بها أصلا، وتعتبر أن عزم أو زعم الحاكم، بعد ارتكاب جرائمه، quot;توحيد الصفوف ووأد الفتنةquot; يكفي لإكفاء quot;ماجورquot; على الجرائم السابقة.. هذا هو التفكير quot;النسبويquot; الذي لا يقيس الجريمة بنوعها وبدرجة فداحتها، بل طبقا لشخصيات الجناة والمجني عليهم. والحقيقة أننا كنا سنتفهم تماما مبررات هذا التفكير السقيم لو كان البشير متهما من قبل المحكمة بجرائم ضد سكان الجنوب الكفار، لكن الأمر يتعلق بـ quot;مسلمينquot;، جريمتهم الوحيدة هي اختلافهم الإثني (العنصري) عن حكامهم الذين يضطهدونهم.
أما الكلام عن quot;وصمة عار في حق المدعي العامquot; فهو نوع من البلطجة الحنجورية الفجة التي تفضح عقلية ونفسية قائليه.
6ـ [المدعي العام يصمت عن جرائم الإبادة الجماعية التي ترتكبها كل يوم سلطات الاحتلال الإسرائيلي (...) ولا يحرك ساكنا باستخدام صلاحياته التي نصت عليها المادة rlm;(15)rlm; من النظام الأساسي للمحكمة لإجراء تحقيقاتrlm;].
ألم نزهق بعد من شماعة quot;إسرائيلquot; ومن تعليق كل ما يحدث وما لا يحدث عليها؟ وهل يستحيل عمل إصلاح أو الاعتراف بوقوع جرائم في أي مكان إلا بعد التخلص من إسرائيل وإلقائها في البحر؟
أما المادة (15)، التي يتفذلك المقال بشأنها، فهي تنص في الواقع على صلاحيات المدعي العام للمبادرة بالتحقيق في جرائم تقع في دائرة اختصاص المحكمة؛ أي، كما ذكرنا أعلاه، بالدول التي صدقت على اتفاقية المحكمة أو طبقا لقرار خاص من مجلس الأمن (الفصل السابع). وللأسف فإن إسرائيل (الخبيثة) لم تصدق على المعاهدة... ولكن، من ناحية أخرى، لا توجد دولة عربية واحدة ـ بما في ذلك مصر (وقعت ولم تصدق) ـ بين الدول الـ 106 التي صدقت عليها. لماذا يا ترى؟؟ هل لأنها ليست أقل خبثا؟
ونلاحظ أن النظام الأساسي للمحكمة يقدم تعريفات قانونية محددة ومفصلة للجرائم الخطيرة التي يمكن لها النظر فيها، وتشمل التطهير العرقي (مادة 6) والجرائم ضد الإنسانية (مادة 7) وجرائم الحرب (مادة 8). ونلفت النظر بالتحديد إلى أن الجرائم ضد الإنسانية تشمل، إضافة إلى القتل والإبادة والاستعباد والتعذيب والاغتصاب، جريمة quot;الاضطهادquot; ضد أي جماعة على أساس العنصر أو الثقافة أو الدين الخ، والذي يتم تعريفه: quot;بالحرمان المتعمد والشديد من الحقوق الأساسية فيما يتعارض مع القانون الدوليquot; (Intentional and severe deprivation of fundamental rights contrary to international law ). هل سيأتي اليوم الذي تنظر المحكمة، مثلا، فيما يحدث لأقليات العالم العربي والإسلامي؟؟
7ـ [الاتهامات تمثل تصعيدا خطيرا من جانب المحكمة في تعاملها مع السودان،rlm; مما يؤدي إلي مزيد من تعقيد الموقف،rlm; ويهدد بانهيار جهود المفاوضات السياسية].
هذا صدى واضح لكلام الرئيس حسني مبارك الذي حذر، أثناء وجوده في باريس، quot;من عواقب التوجه التصعيدي من جانب المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي في تعاملها مع السودان (..)quot;rlm;، وشدد علي أن من شأن هذا التوجه أن يؤدي إلي مزيد من تعقيد الموقفrlm;،rlm; بما يهدد بانهيار جهود المفاوضات السياسية بين حكومة الخرطوم والمتمردين في دارفور من أجل التوصل إلي تسوية الوضع في الإقليمrlm;.
وقد عبر مبارك عن موقفه هذا خلال لقائه في باريس مع بان كي مونrlm;، الأمين العام للأمم المتحدة، الذي رفض بالطبع التدخل quot;السياسيquot; في أعمال المحكمة الدولية المرموقة التي يتمتع قضاتها بالاستقلال التام. ولكن نشك تماما في أن الرئيس مبارك قد أدرك معنى هذا الرد ـ الصفعة، أو فهم مغزاه.
ومرة أخرى تنكشف العقليات التي تعتبر أن quot;توجيه الاتهاماتquot; من محكمة إلى متهم هو quot;تصعيد خطيرquot;. بمعنى آخر ترى وجود ندية بين المتهم وقاضيه، وإمكانية quot;الفصالquot; والحوار بينهما! كما تعتبر quot;التفاوضquot; بين الجناة وضحاياهم أمرا مقبولا وطبيعيا، يجد الضحايا خلاله مجبرين على القبول بدواعي التوازن والانصياع لتبعات الابتزاز، ولتذهب مبادئ العدالة إلى الجحيم. أليس هذا هو بالضبط الأسلوب الذي يجري في مصر أثناء الاعتداءات quot;الطائفيةquot; التي لم يحدث قط أن نال مرتكبوها جزاءهم، والتي كثيرا ما يعاقب فيها الضحايا حفظا على التوازنات، أو يُطلب منهم الجلوس والتفاهم مع الجناة والتنازل عن حقوقهم quot;منعا للإثارةquot; أو quot;حقنا للدماءquot;؟
***
باختصار، فإن عينات أسلوب التعامل مع القضية التي ذكرناها أعلاه تبين الدرك الذي وصلنا إليه: حَوَلٌ ذهني، عمى أخلاقي، التواءٌ نفسي، وخرفٌ سياسي.
وختاما نطمئن الرئيس البشير، في حالة محاكمته، أن لن يواجه حبل المشنقة مثل غيره (...عقوبة الإعدام محرمة) وأن المحكمة بها دائرة استئناف، وأن سجن quot;لاهايquot;، وإن لم يكن مرفها فهو ليس بهذا السوء؛ وعلى الأقل لا يوجد به تعذيب... وعموما لا يجب عليه أن يخشى الملل في السجن، فلا شك أن حكاما آخرين سوف يؤنسون وحدته آجلا أو عاجلا....