قدر هذه الأمة المسماة بالعربية ألا تعدم في كل عصر وكل أوان أبطالاً من صفوفها، لكنهم قد صاروا في عصرنا الميمون هذا أبطالاً من نوعية خاصة، فالعالم يصنفهم كمجرمين وسفاكي دماء، ويبدو أن هذا وحده كفيل بأن ترفعهم شعوبنا إلى مصاف البطولة.
هل يبدو هذا التعميم عن ميول شعوبنا مجحفاً بهم؟
لا أعتقد أن الأمر كذلك، إذا ما فهمنا من العبارات التعميمية أنها لا تجزم بتطابقها مع الجميع حصراً وبمعنى الكلمة، وإنما يكفي لأي تعميم من نصيب الدقة، بأن يكون منطبقاً على التيار السائد أو الرائج، والذي يجنح إليه المزايدون والمتربحون ليغترفوا من الخيرات التي تعود عليهم، جراء توظيف طبولهم ومزاميرهم، في خدمة الألحان التي تنتشي وتطرب لسماعها الغوغاء، حتى لو كانت قطاعات لا يستهان بها من شعوبنا ترى ما يحدث، ولا تمتلك غير الأسى والحسرة، على أمم ضلت طريق الحاضر والمستقبل، وراحت تضرب بغباء منقطع النظير في مستنقعات التخلف والتعصب والكراهية.
للأمة العربية أن تحتفل الآن بانضمام العضو الأحدث في سلسلة أبطالها التي تبدو بلا نهاية، فها هو الزعيم السوداني الهمام الفريق/ عمر حسن البشير يحصل من العالم على نوط العروبة بدرجة فارس، والعدالة الدولية الآن تعد لاحتفالية تكريمه حسب مفاهيمنا، وتحقيره حسب المعايير العالمية للإنسانية وحقوق الإنسان، وتجهز نوط الفروسية ليوضع على صدره في نظرنا، والأصفاد من قبل العدالة في يديه المباركتين، والمتهمتين بسفك دماء شعبه، وبالإبادة العرقية لقبائل دارفور.
لا يثير استغرابي ولا حتى اشمئزازي أمثال البشير المغوار، فلقد تعودنا العيش في رحاب أمثال هؤلاء، بل نكاد لم نعرف غيرهم على كراسي الحكم، على الأقل منذ عهود التحرر الوطني الميمونة، والتي سيطر فيها على مقدراتنا المغامرون والعسكر، لتكتمل الجوقة أخيراً بمشايخ التأسلم السياسي، ومجاهديه المتمنطقين بالأحزمة الناسفة، لكن العجب كل العجب من الجماهير ممثلة في صفوتها، وفي جامعة عربية يجلس على ركامها رجل يرفض أن يتقاعد أو ينتحر خجلاً من رؤاه ومواقفه التي تجاوزها الزمن، وصارت محل إدانة أو مسوغ اتهام، وليست مدعاة للفخر.
الجامعة العربية التي لم تساهم بجهد حقيقي لتدارك كارثة دارفور الإنسانية، تتحرك الآن وتعقد اجتماعاً طارئاً لوزراء الخارجية لمساندة البطل العروبي عمر البشير، وكما حدث وأن تقدمت الإمارات العربية بورقة لإنقاذ صدام من مصيره، وفي نفس الوقت تخليص البلاد والعباد من جرائمه، وطمس عمرو موسى الورقة، سادراً في نهجه العروبي، الذي أوصل بطله إلى حبل المشنقة، ها هي السعودية هذه المرة تتقدم باقتراح مشابه، يؤدي للتوافق مع العدالة الدولية، مع إنقاذ البشير من مصيره ولو إلى حين، فهل سيتعظ الأمين العام الهمام من خطاياه السابقة، ويلتزم هذه المرة جانب العدالة والإنسانية، وينتصر للتوجه السعودي، أم سيصر على أن يكون كما هو، كائن عروبي ينقرض من كل مكان على وجه الأرض، وتتحصن القلة الباقية منه في مبنى الجامعة في ميدان الحرير بوسط القاهرة؟
لقد قفز إلى ذهني وأنا أتأمل الأمر والدم يغلي في شرايين رأسي، أن مسمى الجامعة الميمونة هو quot;جامعة الدول العربيةquot;، فتساءلت بيني وبين نفسي، إن كانت هذه التسمية تعني أن الجامعة معنية بالدول ممثلة في حكامها، وغير معنية بالشعوب، وإلا لكانت تسميتها quot;جامعة الشعوب العربيةquot;، وأنني حين أنتظر منها ومن أمينها العام الاكتراث بفقراء دارفور، الذين يذبحون ويغتصبون ويشردون، فإني أكون بذلك أطالب الجامعة بما يخرج عن نطاق مهمتها المقدسة، والتي كانت طوال الوقت ملتزمة بها أيما التزام، وتشهد على ذلك محاولات عمرو موسى المستميتة وجولاته المكوكية، لإنقاذ القائد الضرورة المهيب الركن صدام حسين، ليس بالطبع برده إلى الحق والتعقل، ولكن بالانتصار له، وتمكينه من أن يظل متشامخاً، يدوس بقدمه الغليظة على رقاب شعبه، ورقاب جيرانه المنتمين أيضاً إلى ما يسمى بالأمة العربية الواحد ذات الرسالة الخالدة.
الاستغراب هنا يأتي من الدهماء وصفوتهم العجيبة المبتذلة، والذين بدأوا التهليل للبطل الجديد، وما يستعصي على فهم أمثالي هنا، أن هذه الجماعات احترفت النقمة والتشنيع بجميع الحكام العرب، دون روية أو تدبر في معظم الأحيان، وبالطبع كان عمر البشير ضمن قائمة هؤلاء المغضوب عليهم، لكن بمجرد أن تصدر المحكمة الجنائية الدولية قرار اتهام لهذا البشير، حتى ينتقل فجأة ودون مقدمات إلى قائمة الأبطال الميامين، التي يحتل المقبور صدام صدارتها، متقدماً على بن لادن والزرقاوي ومقتدى الصدر وحسن نصر الله وخالد مشعل والأسد الكبير والصغير!!
عجيب أيضاً أن قارعي الطبول وضاربي الدفوف هؤلاء يطالبون في مزاميرهم بالحرية والديموقراطية، وهذا البشير قد احترف التنكيل بشعبة، ليس فقط في الغرب في دارفور، وإنما أيضاً في الشرق وفي الجنوب، فهل إلى هذا الحد غاب منا العقل، وصرنا مجرد أسرى العداء مع العالم، فنتشيع لمن يمارس الحكم إجراماً محضاً، لمجرد أن العالم حاول أن يساعدنا، ويفعل ما عجزنا نحن عن فعله، بوضع أمثال هذا البشير في المكان الوحيد اللائق به خلف القضبان؟
من الوارد أن نعذر الدهماء وأصحاب المزامير في غبائهم السياسي والإنساني، إذا ما كان الطاغية الذي يعبدونه يلوح لهم بعدائهم الأثير لإسرائيل، كما فعل صدام مثلاً بإطلاق بضع صواريخ فشنك على إسرائيل، ليموه على جريمته في حق الشعب الكويتي، كما يمكن أن نلتمس لهم العذر إذا ما صدقوا حسن نصر الله وادعاءاته المبتذلة، بأنه يستهدف بعصابته الإرهابية إسرائيل، في حين تثبت كل شمس تشرق، أنه لا يستهدف إلا لبنان الديموقراطي الحر، ليحوله إلى بؤرة للظلام والإرهاب، لكن هذا البشير لم يلوح لهم بأنه ينتوي تحرير القدس عن طريق إبادة شعب دارفور، فلماذا يقبلون منه ما يفعل، ولماذا يساندونه ولا يبتهجون بقرب سقوطه تحت أقدام شعبه المغلوب على أمره؟
كما لم يدع البطل الجديد محاربته للكفار، الذين اتسعت دائرتهم لتشمل كل أصحاب الديانات الأخرى، بل هو يمارس الإبادة لقبائل مسلمة سنية، وليست حتى شيعية من الروافض، حسب مقولات أصحاب تنظيم القاعدة الميمون!!
إذا كنا نثبت للعالم كله منذ سنوات أننا صرنا أمة يتحكم فيها ويقودها ويحوز شرف البطولة فيها المجرمون الذين يقتلون كل آخر، تحت مسمى كافر أو إمبريالي أو صهيوني أو أي مسمى نشاء أن نمنحه لضحايا شهوتنا وشغفنا بسفك الدماء، فماذا سيفهم العالم الآن إذا ما ساندنا البشير الذي احترف سفك دمائنا نحن ولا أحد سوانا؟
لا أظن أن اصطلاح quot;غيبوبة العقلquot; يكفي توصيفاً لما يحدث الآن على الساحة العربية، فغياب العقل عن أي كائن يحوله إلى مجرد جثة ملقاة هنا أو هناك، لكن لا يمكن أن تؤذي مثل تلك الجثة نفسها، بأن تدب فيها الحيوية، لتنهش في نفسها وجسدها.. هي إذن أقرب لأن تكون حالة هوس جنوني مازوشي، تنقلنا من الهوس بالعداء للعالم، إلى الهوس بالعداء لأنفسنا، وربما على علماء الغرب أن يتركوا أبحاثهم لعلاج جنون البقر، ليبحثوا لنا عن علاج لجنون البشر، هذا ما إذا كان يحق لنا بعد الآن أن نعد أنفسنا، أو يعدنا أحد ضمن البشر.
[email protected]