تاريخ الشعوب العربية في العصر الحديث نسخة طبق الأصل في كل دولة من دول العالم العربي. وتاريخ نظام الحكم هوَهوَ مع فروق قليلة، قهر دائم للشعب حين يفكر في الاقتراب من السلطة، أو ينادي بإصلاحات سياسية، أو يسعى إلى تأكيد هويته العرقية أو المذهبية أو الدينية. وتاريخ الشعب السوداني، وتاريخ نظام الحكم ليس استثناء إنما هو يشبه ما يجري في معظم البلاد العربية. وحتى البلدان المستقرة نسبياً، دول الخليج على سبيل المثال، إنما هو استقرار كاذب لأن ثمة استحواذاً أبدياً على السلطة من قبل أسر حاكمة بعينها مع تهميش مريع لدور الشعوب في هذه البلدان، إذ ارتضوا بالحالة المعاشية الجيدة وتنازلوا عن كافة حقوقهم؛ بمعنى باعوا حقوقهم الطبيعة في المشاركة بصنع القرار السياسي بتلك الحالة المعاشية التي تميزهم عن سائر الشعوب العربية في المسكن والملبس والمأكل وكماليات الحياة وترفها، ومع ذلك ثمة جماعات تحاول التمرد على كل ذلك الهضم للحقوق الذي أشرنا إليه.
إن تاريخ السودان الحديث، تاريخ ملتبس وذو تناحرات أكبر من أن توصف بالسياسية حَسْب، فثمة تعقيدات عرقية وأخرى قبلية ndash; وهي سمة الصراع في معظم القرن الأفريقي- وتعقيدات دينية ndash; مسيحية ووثنية في الجنوب، وإسلامية في الشمال- بالإضافة إلى الصراع السياسي على السلطة في القطب العربي الإسلامي، إذ هنالك تناحر بين الزعماء من ذوي الخلفية العسكرية، والزعماء الإسلاميين على طريقة إدارة نظام الحكم، وإجراء بعض التشريعات. ومنذ استقلال السودان في العام 1956 تأسست دولة السودان الحديثة على أساسين تمثّلا في شخصية رئيس أول وزراء سوداني تحقق في زمنه استقلال السودان من الإدارة البريطانية المصرية المشتركة هو إسماعيل الأزهري ( 1901-1969) وهذان الأساسان هما:
- أولاً، التوجه القومي العروبي من خلال سعي الأزهري إلى تحقيق الاتحاد مع مصر ولذلك فإن حزبه اسمه ( الحزب الوطني الاتحادي) وحالياً أضيفت إلى اسمه كلمة ( الديمقراطية) وحذفت منه كلمة ( الوطني) ليصبح: الحزب الاتحادي الديمقراطي.
- وثانياً، التوجه نحو الديمقراطية، وقد جرى فعلاً انتخاب الأزهري من داخل البرلمان السوداني. ومع أن نشأة الأزهري كانت نشأة دينية، إلا أنه لم يوجه البلاد أو يطبع نظام الحكم بطابع ديني بسبب تصاعد المدّ القومي العروبي الوحدوي في الخمسينيات، ذلك المدّ الذي حمل راية الاستقلال وتأسيس الأنظمة الشمولية في العالم العربي. لكن تاريخ السودان من جهة ثانية، ظل محكوماً بتصاعد أربع قيم رئيسة هي: النزعة السلفية الإسلامية التي تمثلت في الحركة المهدية، والنزعة العسكرية التي اصطبغ بها نظام الحكم عبر عدة انقلابات للوصول إلى السلطة، والنزعة القومية التي كانت ايديولوجية النظام العسكري الذي قاد السودان، ثم النزعة الإسلامية المعاصرة التي يقود قطباها حسن الترابي والصادق المهدي، وهي حركة يتشابه خطابها مع الحركات الإسلامية المعاصرة وفي مقدمتها حركة الأخوان المسلمين التي لها جذور قوية في هذا البلد. ولذلك استغل تنظيم القاعدة هذه القاعدة الإسلامية هناك لاستضافة أسامة بن لادن ( 1991-1996) وتكوين خلايا الإسلام الراديكالي والتخطيط لضرب المصالح الأمريكية في القارة السوداء، وفعلاً تبنى تنظيم القاعدة المسؤولية عن تفجير سفارتي الولايات المتحدة الأمريكية في كينيا وتنزانيا في 7/8/1998. وقبل هذا التاريخ، كانت هنالك إشارات وبيانات متلاحقة من وكالة الاستخبارات المركزية عن تزايد النشاط الإرهابي في دولة السودان منذ بداية التسعينيات، وهو ما جعل الولايات المتحدة تقدم على وضع السوادان على قائمة الدول التي ترعى الإرهاب أو المارقة عن القانون الدولي وذلك في العام 1993. وصدقت نبوءتها مرتين: الأولى، في محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في سنة 1996 والثانية في تفجير السفارتين في آن واحد سنة 1998. ومن هنا جاء ضرب مصنع الشفاء للأدوية في العام 1998 بـ 13 صاروخ من نوع كروز، إذ أشار تقرير للسي آي اي بإمكانية إنتاج سلاح كيمياوي في هذا المصنع المشكوك في امتلاكه من قبل أسامة بن لادن.
وقد تمثلت تلك القيم كلها في نظام الحكم الحالي بقيادة عمر حسن البشير الذي تحالف مع حسن الترابي في الانقلاب العسكري سنة 1989. واتجه النظام العسكري إلى تذويب صورته العسكرية باستغلال حسن الترابي في استثمار المدّ الإسلامي في الشارعين السوداني والعربي ثم التخلي عنه بعد ذلك ليُلقى في السجن سنة 2001. ومن ثم محاولة النظام لمسك العصا السياسية من الوسط بطريقة ذكية، فهو نظام يمكن أن تلحظ في خطابه التوجه القومي على التوجه الإسلامي على التوجه الديمقراطي على التوجه العسكري لكن من خلف الجلابية السودانية البيضاء. وبعد إبعاد الترابي الإسلامي السلفي، انفتح النظام على العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية من خلال تضامنه معها في حربها ضد الإرهاب، طبعاً في مقابل غضّ الطرف عن تجاوزات النظام على حقوق الإنسان، والمساعدة في إيجاد حلّ للتمرد في البلاد الذي أستمر لأكثر من عقدين. ولعل القارئ الكريم، يلحظ النفاق السياسي الذي يمارسه نظام الحكم في التحالف تارة والغدر تارة أخرى، وكلّل ذلك في تأييده لنظام صدام حسين في غزوه دولة الكويت سنة 1990.
ولكن مع كل ذلك التكتيك السياسي، فقد فشل نظام الحكم في تحقيق بعض التوازنات ما بين توجهاته القومية ذات الصبغة الإسلامية وبين مطالب الجنوبيين الغامضة التي لا تعرف هل هي مطالب للانفصال وتكوين دولة مستقلة تحظى بالدعم الدولي ولاسيما الولايات المتحدة أم مطالب للحصول على حكم ذاتي ضمن الدولة السودانية؟. وفشل كذلك في إقناع الإسلاميين بالتنازل عن مطالبهم المتشددة في أسلمة نظام الحكم على وفق فلسفة الدكتور الترابي.
وفشل أيضاً، في إيجاد حلّ لمشكلة إقليم دارفور الغني بالموارد والذي يشغل خمس مساحة البلاد، وعدد سكانه 6 ملايين نسمة، وله تاريخ عريق في الاستقلال ومقاومة العثمانيين، إذ كانت سلطنة دارفور تتمتع باستقلالها واجتماع القبائل التي تتكون منها تلك السلطنة على رأي واحد هو وجوب الاستقلال عن السلطة المركزية. وبسبب الموارد الاقتصادية التي يتمتع بها الإقليم، ووقوفه إلى جانب الدولة العثمانية ndash; رمز الخلافة الإسلامية آنئذٍ - في الحرب العالمية الأولى، فقد قاد الحاكم العام في السودان حملة للقضاء على السلطنة بالقوة وجعلها جزءاً من الدولة السودانية في العام 1917. وعلى الرغم من أن غالبية السكان هناك هم من العرب المسلمين السنة، إلا أن ذلك لم يمنعهم من التصادم مع الدولة السودانية العربية السنية، وذلك لمقتضيات قبلية أولاً، وتاريخية ثانياً هي ذلك الاستقلال الذي حظي به هذا الإقليم في العقود السابقة. ولأن تاريخ الدولة السودانية الحديث، هو تاريخ شكّله العسكر في المقام الأول، فإن الحوار الذي مورس لحل هذه المشكلة كان حوار الدم والسلاح، لكن بطريقة تبعد الشبهة عن الحكومة وذلك عن طريق مليشيات الجنجويد في ممارسة أبشع الجرائم بحق سكان إقليم دارفور.
لكن المؤسف حقاً، هو أن مذكرة اعتقال الرئيس السوداني عمر حسن البشير، التي أصدرها المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية لويس مورينو اوكامبو، قد كشفت جملة من المسائل المهمة، لعل في مقدمتها تعرية نمط الخطاب الثقافي السائد، ودائماً تسلط الأحداث التي تجري في العالم العربي الضوء على ذلك الخطاب. أحداث العراق ولبنان وفلسطين والسودان، وجنوب اليمن، والنزاع الإسلامي القبطي في مصر، والموقف من الحركات الإسلامية الراديكالية، والموقف من الأنظمة الدكتاتورية، والموقف من حقوق الإنسان ومطلب الديمقراطية ومعضلة الأقليات والإثنيات، وسوى ذلك من المشكلات التي يعج بها العالم العربي، أقول إن تلك الأحداث تعدّ مدخلاً مهماً لمعرفة حقيقة الخطاب الثقافي الساعد الأيمن في إدامة تلك المشكلات وتغذيتها من خلال موقف مداهن ومنافق.
عندما أصدر اوكامبو مذكرة اعتقال البشير، اهتزّ العَصَبان: القومي والديني لبعض الكتّاب والشخصيات السياسية على نحو غبيّ للدفاع عن الرئيس السوداني بذريعة عدم جواز محاكمة رئيس دولة هو رمز وطني أولاً ورمز قومي وإسلامي ثانياً، وقد صاحب ذلك الاهتزاز تحريك الأعصاب الأخرى من قبيل البحث في فقه المؤامرة، وفقه شرف الأمة، وفقه حصانة الرئيس، وسواها من المفاهيم التضليلية العتيقة. ومن المؤسف، أن الجامعة العربية التي يفترض أنها مؤسسة مستقلة إلى حدّ كبير عن الأنظمة وقريبة من تطلعات الشعب العربي وحقوقه، بادرت إلى عقد اجتماع طارئ يشبه اجتماع القبيلة الذي يعقد تحت خيمة مكتوب عليها: إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً. ومثلما ليس مهماً ما يجري تداوله تحت تلك الخيمة إذ النتيجة لا تُبنى على تداول عقلاني إنما على تداول قبلي، فإن ما هبّ إليه العرب هبّة الرجل الواحد هو محسوم سلفاً ومحكوم أيضاً بحكمة: إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً.
لم تكلف الجامعة العربية - غطاء الدكتاتورية - نفسها في تقليب أوراق نظام الحكم في السودان، بل اكتفت في أن عدم إدانة هذه المذكرة يعني السماح لمذكرات أخرى تطول شخصيات ودكتاتوريات تعدّ الجامعة الغطاء الحامي لها، والبند الذي يمنحها شرعية البقاء. لكن في مقابل هذا الحضور الطاغي للمشاريع والمقترحات التي تحاك في ظلام أروقة هذه الجامعة الهادفة إلى صيانة مجد الدكتاتورية، يُلاحظ غياب مريع لمطالب الشعوب العربية، وضمور صوتها، بل نسيانها على نحو ينذر بكارثة حقيقية.
مذكرة الاعتقال، تمسّ كرامة الأمة، لكن قتل مليوني سوداني وتهجير أكثر من مليون بحسب إحصاءات دولية موثوقة، لا يمسّ لا من قريب ولا من بعيد شرف الأمة. وتلك المذابح التي تتعرض لها الشعوب العربية على يد حكامها، لا يحرّك العصب الإنساني للجامعة العربية لاتخاذ مبادرة في الضغط على تلك الأنظمة المستبدة لإيقاف مجازرها الوحشية بحق الشعوب المغلوبة على أمرها. ومن ناحية ثانية، لم تتبنَ الجامعة العربية مشروعاً لإصلاح نظام الحكم العربي، بدلاً من المشاريع المطروحة من الخارج والتي تسببت في سفكٍ غزيرٍ للدماء العربية.
يمكن للمرء أن يتساءل، إذا كان البشير بريئاً، لماذا يصاب بكل هذا الهلع؟. هل اطلع على لائحة الاتهامات الموجهة إليه؟. هل اتخذ الإجراءات القانونية للطعن في تلك الاتهامات؟. من المؤكد، أن نظام الحكم الذي تسنّم قيادة البلاد عن طريق الانقلاب العسكري لا يمكن أن يفقه المضمون الإنساني في القانون الدولي، بل ثمة طريقة أخرى لمواجهة ذلك تتمثل في: الادّعاء بأن المقصود من المذكرة هو إجراء محاكمة سياسية تكمن وراءها الولايات المتحدة، وطبعاً هذا يناسب تماماً مزاج الشارع العربي، وفعلاً عبّر عدد من المواطنين الفلسطينيين ndash; في تقرير لمراسلة إيلاف - عن احتجاجهم على المذكرة من باب إنصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، متغافلين عن الوضع المأساوي للشعب السوداني تحت قيادة البشير. ويبدو لي، أن الفلسطينيين سوف ينتهي بهم المطاف إلى أن يلتفتوا يميناً وشمالاً فلم يجدوا سوى سيوف الدكتاتورين الخشبية.
ومن ناحية أخرى، كشفت هذه المذكرة عن عوز شديد في منطق الحجاج السياسي والثقافي لدى العرب. بمعنى أن ذلك الحجاج لا يرقى إلى التطور السياسي والاجتماعي في العالم الذي هجر هذه الأساليب الحجاجية منذ زمن بعيد. فليس ثمة شيء اسمه ( حصانة الرئيس) أو ( السيادة الوطنية) في ظل نظام حكم تأسس على فقه الانقلاب العسكري. مفهوما الحصانة والسيادة، يطالب بها الشعب لا الرئيس نفسه حينما تكون هنالك تجربة ديمقراطية حقيقية. ومن هذه المطالبة، تنبع قوة منطق الحجاج السياسي المعاصر. وفي ضوء هذا، يمكن القول إن ورقة البشير القانونية والأخلاقية قد سقطت سواء أطبّقت المذكرة أو لم تطبّق.
الحصانة، والسيادة، مفهومان شعبيان، ولأنهما كذلك فلا أمل للبشير في الاختباء خلفهما.
[email protected]