ستبقى صور المظليين الفرنسيين وهم يهبطون أمام المنصة الرئاسية على ساحة الكونكورد في باريس، في الرابع عشر من يوليو (تموز)، من الذكريات التي لا تمحى بسهولة. فللمرة الأولى نفذت هذه الفقرة المدهشة من قبل 7 مظليين فرنسيين وهم يحملون أعلام فرنسا وأوربا والأمم المتحدة، وقد شارك أيضاً في استعراض العيد الوطني الفرنسي عسكريون وطائرات وآليات من دول مختلفة (ميغ 29 سلوفاكية مثلاً). وحيث أن كل ذلك جرى أمام أكثر من أربعين رئيس دولة أو رئيس حكومة ممن دعاهم الرئيس الفرنسي لحضور الاستعراض، فقد اكتسب الحدث بعده الواضح كجزء من السياسة الخارجية الفرنسية خصوصاً وأنه أتى بعد يوم حافل عاشت فيه باريس نجاحات مفصلية في سياستها الخارجية. وذلك ابتداء بالاجتماع الذي أعقبه المؤتمر الصحافي الرباعي (رؤساء فرنسا وسوريا ولبنان وأمير قطر) وما أعلن فيه من تقدم هائل على مستوى العلاقات الفرنسية السورية واتفاق الرئيسين السوري واللبناني على تبادل السفراء وكذلك على مستوى المفاوضات بين سوريا وإسرائيل حيث صرح الرئيس الأسد أنها ستدخل مرحلة المفاوضات المباشرة وبرعاية فرنسا. وقد تبنى القادة أيضاً ضرورة العمل على إنجاح العملية السلمية بين السلطة الفلسطينية بقيادة الرئيس محمود عباس وإسرائيل، مما يمهد للسلام في عموم المنطقة. وقد جرى كل دلك في إطار المشروع الطموح بتأسيس الاتحاد من أجل المتوسط، حيث نجحت دبلوماسية ساركوزي في عقد قمته في نفس اليوم، فكان مثالاً آخر على ديناميكية هذا الرئيس التي فاقت توقعات المراقبين السياسيين في فرنسا.
ورغم ارتباط مصير هذه النجاحات بسلوك مختلف الأطراف، وإسرائيل بالخصوص، يبدو لي واضحاً أن الخطة الطموحة التي تبنتها الدبلوماسية الفرنسية منذ شهور طويلة أعطت نتائج كبرى بالتقدم نحو تخفيف التوترات في منطقة الشرق الأوسط تمهيداً لتحقيق السلام فيها. فبالاضافة الى إعلان قيام الاتحاد المتوسطي، قامت فرنسا بدور أساسي في عملية تقريب سوريا وكسبها كبلد صديق. وقد تحقق لفرنسا من هذا التقارب مع سوريا ثلاثة أهداف ذات أهمية كبرى 1) تكريس المفاوضات غير المباشرة بين سوريا وإسرائيل بوساطة تركية وتحولها إلى مفاوضات مباشرة، برعاية فرنسية هذه المرة وبحضور الولايات المتحدة، كما صرح الرئيس الأسد بذلك. 2) دفع سوريا الى لعب دور فاعل في حل الأزمة السياسية في لبنان من خلال الضغط، عبر حلفائها، على حزب الله لتوقيع اتفاق الدوحة ثم تشكيل الحكومة قبيل سفر الرئيس ميشيل سليمان الى باريس، ويعكس حضور أمير قطر في المؤتمر الرباعي في باريس حقيقة الدور المهم لدولة قطر في هذه التطورات السورية/اللبنانية. وشكل إعلان تبادل السفراء بين البلدين تكريساً لتطور الموقف السوري ونظرته الى لبنان. 3) فك تحالف سوريا مع المعسكر المتشدد في المنطقة ولا سيما إيران والمنظمات الفلسطينية المتشددة ودفعها لتأييد أو على الأقل عدم معاداة مسيرة السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية. وهذا يعني أيضاً فصل إيران عن امتدادها في لبنان (حزب الله) وماله من تأثير خطير نحو استقرار لبنان والمنطقة في المنظور الفرنسي. 4) وهكذا يتم تحويل سوريا من دولة quot;معاندةquot; إلى دولة quot;صديقةquot; بحيث سمح الرئيس الفرنسي لنفسه، في نفس المؤتمر الرباعي، بالطلب منها بلعب دور في عقلنة الموقف الايراني من مسألة تخصيب اليورانيوم وتحذيرها من مغبة التمادي في سياستها الحالية، وقد قبلت سوريا بهذا الدور وتم استقبال وزير خارجية إيران في دمشق، يوم 18 تموز (يوليو)، للتباحث في تقريب وجهات النظر المتصارعة حول الموضوع.
ويمكن اختصار مدلولات الدور الفرنسي في تغيير خارطة الاصطفاف في صراعات المنطقة بالنقاط التالية: 1) توجه السياسة الخارجية الفرنسية نحو تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة 2) يحقق في نفس الوقت المصالح الكبرى لفرنسا في تثبيت حضورها في الشرق الأوسط واستعادة دورها القوي في لبنان وعملية السلام في الشرق الأوسط. 3) تحقيق مصالح اقتصادية كبرى، اتضحت ملامحها في مؤتمر الاتحاد من أجل المتوسط، وسيتضح خلال زيارة ساركوزي لدمشق، في أيلول (سبتمبر) القادم، حجم المشاريع التي تخص سوريا والتي تشكل جزء من المكاسب التي تنتظرها. 4) مساعدة السلطة الفلسطينية في مفاوضاتها مع إسرائيل، سواء من جهة إضعاف المناوئين للعملية السلمية أو من جهة دفع إسرائيل للتقدم بشكل جدي على طريق السلام مع دولة فلسطينية قابلة للحياة. لأن صانعي السياسة الخارجية الفرنسية يعتقدون أن هذه التطورات (السورية) ستحرج إسرائيل وتدفعها للتخلص من تناقضاتها والتقدم على طريق السلام، وجاءت التصريحات الايجابية لرئيس الوزراء الاسرائيلي في باريس تثبيتاً لذلك وإشارة للفرنسيين باستلامه الرسالة، رغم أن وضعه الداخلي يدفع الى الحذر طبعاً.
إضافة الى هذا الدور الفرنسي المباشر في تسهيل المفاوضات، تأتي قمة الاتحاد من أجل المتوسط كمشروع كبير لبناء اتحاد متوسطي متعاون في ظل سلام دائم من أجل البناء والازدهار. وقد قارن الساسة الفرنسيون قيام الاتحاد المتوسطي بمشروع الاتحاد الأوربي، حيث عبر وزير الخارجية الفرنسية برنارد كوشنير بأنه (أي الاتحاد المتوسطي) أشبه بحلم قد تحقق، وتبنى الرئيس الفرنسي نفس التعبير مشيراً الى الآباء المؤسسين للاتحاد الأوربي المعروف بنجاحاته الكبرى في عالم التعاون والبناء في المجالات المختلفة. وإذا كان صحيحاً أن الاتحاد الأوربي نشأ في ظروف بالغة الصعوبة وفي أعقاب عقود بل قرون من الحروب والصراعات، فان الدول المؤسسة ومن ارتبط بها لاحقاً تميزت بالتماسك في طموحاتها وفي تمثيلها لشعوبها، بينما تعيش دول جنوب وشرق المتوسط تناقضات داخلية وتسود علاقاتها تعقيدات شائكة تدفع المراقب الموضوعي الى الابتعاد عن مثل هذه المقارنات. وربما أراد القادة الفرنسيون من هذه المقارنة أولاً: ترويج النظرة الاستراتيجية التي ينبغي على حكام دول المتوسط امتلاكها، وثانياً: ترغيب قادة هذه الدول بآفاق النمو الاقتصادي التي تنتظرهم إن هم استمروا في طريق السلام والتعاون. من جهة أخرى، لازالت ذكرى برشلونة تؤرق الموقعين للبيان النهائي لقيام الاتحاد المتوسطي، إذ يؤكد فشل اتفاق 1992 حقيقة أن أكثر المشاريع طموحاً تحتاج الى تحقيق السلام المقبول من جميع الأطراف لضمان نجاحها، حيث أن فرص السلام الحالية والتي ينتظر أن تؤسس لنجاح الاتحاد المتوسطي لازالت في طور التكون والانطلاق.
ومع ذلك، فان الوضع المتأزم الذي تعيشه المنطقة وآفاقه الخطيرة قد يمنح هذا الجهد الدبلوماسي فرصاً أكبر بالنجاح كما يتوقع مؤسسوه والمشاركون فيه، وستبقى ما أسميته بالطفرة الدبلوماسية الفرنسية بقيادة الرئيس ساركوزي مثلاً على خطط السياسة الخارجية في سياق الأزمات. صحيح أن مثل هذه الخطط تعتبر مهمة بحد ذاتها من حيث الدروس وإمكانات التطوير المستقبلي لها، لكنها تمتلك إمكانية نجاح حقيقي في حلحلة الوضع الشائك والمتكلس في بلدان الشرق الأوسط، بل ويمكن القول أنها بدأت تعطي ثمارها الأولى في تطور مواقف القوى المتشددة ربما لشعورها بما ينتظرها من صعوبات، حيث قبلت حماس بالتهدئة وهددت بضرب المنظمات الفلسطينية المخربة لها ولوّحت إيران بقبولها لفكرة إقامة الولايات المتحدة مكتب تمثيل لها في طهران وإمكانية قبول حل معقول لأزمة مفاعلها النووي وما تبعه من حضور مندوبها مباحثات جنيف، يوم 19 تموز (يوليو)، بمشاركة الشخصية الثالثة في الخارجية الأمريكية ثم تقبلها بشكل ما لملاحظات الادارة الأمريكية الصارمة بشأن سلوكها المراوغ في الاجتماع حيث قبلت مهلة الأسبوعين التي حددتها الدول المشاركة لتبيان موقفها الواضح وإلا فالعودة الى مجلس الأمن الدولي. من جهة أخرى، تأتي زيارة وزير الخارجية السوري وليد المعلم الى بيروت تأكيداً للتوجه السوري حيث سلم دعوة الرئيس الأسد الى نظيره اللبناني لزيارة دمشق. وستسمح نتائج هذه الزيارة البالغة الأهمية بالحكم بصورة أوضح على المسار الذي بدأت تتخذه السياسة السورية اتجاه لبنان والملفات العالقة بين البلدين وبالتالي سيمكن quot;قياسquot; التأثير الذي ستلعبه سوريا بصورة مباشرة أو غير مباشرة على الأطراف الأخرى في معسكر quot;الممانعةquot;.