لو خيرنا بين أمرين مفصليين محوريين: بين امتلاك الحقيقة النهائية، والشوق الخالد الى البحث عنها، كما قال فيلسوف التنوير الألماني (ليسنج)(جاءت هذه الفقرة في مقدمة كتاب الأمراض القلبية تأليف مدني الخيمي الاستاذ المدرس في جامعة دمشق سابقاً) من القرن الثامن عش، لوجب أن نجثو خاشعين نمد اليد باتجاه الخيار الثاني، لأن الحقيقة النهائية والمطلقة والشمولية، لن يملكها أحد أو يحيط بها كائن، بل هي لله وحده، الأول الآخر، الظاهر الباطن، الأزلي الأبدي السرمدي، المحيي المميت، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وهو بكل شيء عليم، وأحاط بكل شيء علما، ويعلم السر وأخفى. ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
إذا كنا نسبح بين اللانهايتين، بين العدم الذي خرجنا منه، والعدم الذي نرجع إليه، بين العالم الصغير الذي يتضاءل فلا تعرف نهايته، وبين العالم الكبير من الأفلاك الذي يتسع ويمتد فلا يحيط العقل بنهايته.

السباحة بين اللانهاية والعدم:
إذا كنا في اللحظة الواحدة كما يقول الفيلسوف الفرنسي (باسكال) نسبح بين لا نهايتين (يراجع في هذا كتاب قصة الحضارة لويل ديورانت عن باسكال وكذلك الكتاب الشيق الذي كتبه نجيب البلدي فقرة اللانهايتان المشهورة، وهي من أبدع ما كتب في النثر الفرنسي) لا نحيط بهما ولا يطوقهما تصورنا ولا يصل الى حافتيهما مداركنا، فنحن لاشيء إذا قورنا باللانهاية التي تغمرنا، ونحن كل شيء الى العدم الذي خرجنا منه، عندما لم نكن شيئاً مذكورا، فنحن وفي اللحظة الواحدة كل شيء وعدم، في تناقض لا سبيل الى معرفة كنهه أو فك لغزه أو مسح طلسمه.
إن هذا يدفعنا الى استنشاق كل لحظة حياة؛ لفهم وفك لغز أي جزئية من أسرار الحياة، حتى الموت المزلزل يتحول الى تجربة أخيرة، كما كانت تصرح بذلك الأميرة الألمانية (شارلوتنبرج) في حواراتها مع الفيلسوف الألماني (لايبنتس Leibnitz) في مواجهة الذات مع صاعقة الاندثار المؤقت باتجاه رحلة الخلود، فلم تعد تخاف من الموت لأنه سيكون الكاشف الأخير عن البصيرة لإدراك ما عجزت عن إدراكه في الحياة مع كل رحلة الفلسفة، لأن الحياة والموت أكبر من الفلسفة وحواراتها، فالموت هو اليقين الذي تنكشف عنده البصيرة؛ والبصر يومها حاد جداً يخترق السجف، فبصرك اليوم حديد.

لا إدانة ولا تزكية
هذه الكلمات لا تريد إدانة طرف على حساب تزكية آخر، أو مجاملة وجود على حساب إهمال وتنكر وجود مقابل، بل هي محاولة سبر واستنطاق آلية الكلمة وتعبيرها، في محاولة تأسيس العقلانية، وحرية الرأي المبنية على الاعتراف بالآخر، وحماية وجوده، باعتبار أن المحافظة على الآخر هي محافظة على الذات، وتدمير الآخر هي تدمير للذات، مثل عمل الرافعة تماماً، فالإخلال بالتوازن يرفع طرفاً على حساب تهميش وتحييد وعزل وإلغاء وتصفية الطرف الآخر، فكان لابد من إذن من حوار عقلاني، لتأسيس وتدشين عقلية وأرضية جديدة للبناء الاجتماعي المستقبلي.

الاعتراف بالتعددية
مع تأسيس فكرة النسبية في إدراك الحقيقة، ومبدأ الحوار، والاعتراف بالتعددية، وإلغاء الاحتكار والوصاية الأخلاقية على الحقيقة، ونبذ العنف جملة وتفصيلا، وكل ما يقرب إليه من قول وعمل، وإعلان ولادة العقل، وتبني مقولة ما أراه حقاً ويحتمل الخطأ، وما تراه أنت خطأ ويحتمل الصواب، يفضي الى الجدلية الفكرية الخصبة وجو التزاوج والتحرر من العنة والعقم الفكريين، وبداية تأسيس مناخ يسمح للجميع بالتعبير والوجود والنمو المتبادل، وسنشد عضدك بأخيك ونجعل لكما سلطانا.
لم يطلب الرسول ص أذنا من قريش بتبليغ أفكاره، كما لم يكن حريصا على إيذاءهم، وكان موضع ثقتهم الى آخر لحظة، عندما ترك عليا (ر) في فراشه كي يعيد الأمانات الى أصحابها، وكانت تعرف عنه قريش كما صرح أبوسفيان بذلك الى هرقل، عندما كان في سفره الى بلاد الشام، أنه لا يغدر ولا يكذب ويحافظ على العهود والمواثيق ويتمتع بأخلاقية عالية فوق الشبهات.

وصفة سحرية: تخلص من العنف تتحرر من الخوف!!
الخوف يأتي في العادة من تبني العنف وماقرب إليه من قول وعمل، في آلية معقدة، فالعنف يبحث عن السرية التي تشكل وسطه الملائم لاستنبات جراثيمه، والسرية بدورها تتعانق مع العنف في زواج غير شرعي؛ فالعنف يحب السرية ويبحث عنها ويخلقها، والسرية تغلف العنف وتؤمن له الستر والحماية والتحريض والإعداد، في تركيبة مرضية مشئومة انفجارية مؤذية.
يخطئ بدون حدود من يتصور طبيعة وجذور المرض السياسية غير الثقافية، وينسى في غمرة الأحداث وحمى الوسط أن السياسي هو حفيد المثقف.
السياسي يلمع تحت الضوء في العادة ولكن المثقف لا ينتبه إليه أحد، وهو المنظِّر والمؤسس للفكر السائد وكل ذيوله واختلاطاته.
قول الحق وحرية الرأي مصطلحان يتصلان بثقافتين، ولكنهما يصبان في النهاية في نفس الخانة. كلمة قول الحق والصدع به مصطلح نبوي، وحرية الرأي مصطلح غربي طغى وساد في وسطنا الثقافي اليوم، ونحن تحت تأثير وضغط ساحق لفكرة، مؤداها أن الحق معروف، ولكن الصدع به صعب ومكلف إن لم يكن مستحيلاً، ولكن ما مدى صمود هذا المفهوم للتحليل والتفكيك؟