لقد أحدث صلح الحديبية إضطراباً شديداً في الوسط الصحابي، وصل إلى حد التشكيك بالنبوة، بل كان هناك شبه تمرّد على الصلح، ومن أبرز الشخصيات التي تحضر في هذه القضية هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان ذلك بطبيعة الحال قبل كتابة الصلح، كما تقول رواية ابن إسحق ((... فلمّأ إلتأم الامر ولم يبق إلاّ الكتاب وَثَّب عمر بن الخطاب...))، وتذكر بعض المصادر إن ذلك كان بعد كتابة الصلح كما في دلائل النبوّة للبيهقي.
لقد كان عمر بن الخطاب يحاجج النبي من منطلق النبوة، أي من منطلق إيمان محمد بنبوته.
تنقل الرواية الحوار التالي بين محمد وعمر:
عمر: يا رسول الله ألست برسول الله؟
النبي: بلى.
عمر: أولسنا بالمسلمين؟
النبي: بلى.
عمر: أوَ لسيوا بالمشركين؟
النبي: بلى.
عمر: فعلامَ نعطي الدنيَّة في ديننا؟
النبي: أنا عبد الله ورسوله لن أخالف أمره ولن يضيعني.
هذا الحوار لا نقرأ ه في كتب السيرة فقط، بل هو في صحيح البخاري مع شي من التغيير البسيط، في كتاب الجزية حديث رقم 3182.
الحوار يكشف عن تصور (عمري) خاص با لنبوة، يتصورها مطلقة، شي متعالي على الزمان، متعالي على الشروط، وهو تصور مغلوط بطبيعة الحال، ويكشف عن خلل(عمري) في فهم النبوة، وليس في ذلك عيب، ولا نقص، بل هو ربما خلل ممدوح، ينم عن حب وإخلاص وتفاني، ومن هنا ليس غريبا أن ينتاب الشك عمر بن الخطاب بنبوة محمد في هذه الحالة، لأن فهمه للنبوة خارج الزمان، خارج الفهم الموضوعي العلمي للنبوة، فهو يقول كما تنقل الرواية:((... والله ما شككت منذ أسلمتُ إلاّ يومئذ، فأتيت النبي فقلت: يا رسول الله ألست نبي الله...))1. وفي الواقدي نقرأ: ((... أرتبتُ إرتيابا لم أرتبه منذ أسلمتُ إلاّ يومئذ، ولو وجدتُ ذلك اليوم شيعة تخرج عنهم رغبة عن القضية لخرجتْ...).2
فهو شك إذن، وهو ناتج في تصوري عن ذلك الفهم السامي المتعالي للنبوة، ولكنه تسامي ليس في محله، ومفارِق غير علمي، وسواء كان فهما في وقته أم هو الفهم السائد لدى ابن الخطاب، فإنه قاد إلى الشك لحظة ما.
لقد عانى عمر من هذه (الإنتكاسة!) كما يبدو في (إيمانه!) وراح يتقلَّب ويتوجَّع، هذا ما صرّح به علنا: ((... فكان عمر يقول: ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق من الذي صنعت يومئذ، مخا فة كلامي الذي تكلمتُ به حين رجوتُ أن يكون خيرا)) 3.
وفي اعتقادي أن سلوك صحابي الجليل عمر بن الخطاب رضي الله عنه هذا غير مبرر، فإن شكه كان طبق فهم خاطئ، وكان مخلصا في خطئه، فلماذا هذا الخوف؟ بل كان له أن يفتخر بذلك، لانه قال ما في ضميره، كان صادقا، كان منسجما مع نفسه، أنه أشبه بشك إبراهيم عليه السلام، الأمر الذي يجعلني أفسر سلوكه هذا بنوع من عدم الثقة بالذات.
لم يكن الشك عارضا، بدليل أن عمر بن الخطاب حاور في ذلك رفيق دربه أبا بكر الصديق في ذات القضية، مبديا شكه الواضح:((... قال ـ أي عمر رضي الله عنه ـ أبا بكر رضي الله عنه، فقلتُ: يا أبا بكر،أليس هذا نبي الله حقا؟ قال: بلى، قلتُ: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلتُ: فلم نعطي الدنية على ديننا إذا؟ قال: أيها الرجل، إنّه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربّه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه حتى تموت، فوالله إنه لعلى الحق، قلت: أوليس كان يحدّثنا أنّه سيأتي البيت ويطوف به؟ قال: بلى، فأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه وتطوف به))4
لقد سيطرت قيم المنطق المطلق على فكر ابن الخطاب رضي الله عنه، وهي لكبيرة أن يتهم أو يظن الخليفة الصحابي الجليل أن المسلمين أ عطوا الدنية من دينهم في هذا الصلح، ولكنه أمر في غاية الطبيعة إذا كان نتيجة فهم خاطئ للنبوة وعلاقتها بالزمن، ربما نتيجة فهم مغلوط للواقع وشروطه واجتراحاته وملابساته، بل قد يكون من علامات الاخلاص والحب، فما كان له أن يضطرب فيما بعد، يتصدق ويصلي ويصوم طول دهره ليكفِّر عن: (ذنب!) غير متعمد ولا مقصود، بل إذا كان ذنبا، فهو حقا ذلك الذنب الجميل جدا، وبين هذا وذاك ضاع الزمن الاسلامي في موقف عمر من صلح الحديبية، فهو بين تكفير وتمجيد، بين دفاع وإدانة، بين قابل ورافض، فيما هي من بدهات سنن الاجتماع والتاريخ، ومعطيات (نفس) خاصة، لها ما لها وعليها ما عليها، تلك هي (نفس) عمر رضي الله عنه، وهو لخطأ جسيم أن يكون قياس النفوس على بعضها منهجا لتقييم الخطا من الصواب،أو طريقا لتشريع قوانين في علوم النفس والاجتماع، أو طريقة للحكم بأن هذا مشكوك الموقف وذاك متيقن الموقف، أو هذا مخلص الموقف وذاك دسيس الموقف.
يبدو إن الرواية أخذت محلها السلبي لدى بعضهم، فأراد أن يخفف من حدة الموقف العمري، فحرف بعض مضانها، فبدل (فلماذا نعطي الدنيِّة من دينيا) تأتي الرواية (فلماذا نعطي الدنية من أنفسنا) 5، وهو هاجس الخوف من إتهام الخليفة بالشك والارتياب بنبوة محمد كما جاء نص الرواية في البخاري!
إن معالجة الكثير من مشاكل الصحابة على ضوء معطيات الواقع، ومسؤولية الذات بسبب كونها هجينا مهما بدت خالصة المضمون ينتهي بنا إلى نتائج محمودة العاقبة، ويخلصنا من مشكلة زج القيمة القرآنية بشكل وآخر في جسم هذه القضية الحساسة بله الخطيرة المدمرة.
ماالذي يمنع من القول إن هناك فهما قاصرا للنبوة؟ وفي ضوء ذلك نفهم موقف الصحابة وهم يرفضون طلبا للنبي عندما إنتهى من صلح الحديبية أ ن يذبحو الهدي ويحلّقوا!
تقول الرواية: لما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضية الكتاب قال لأصحابه: ((... قوموا فانحروا ثم حلقوا... فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات، فلما لم يقم منهم أحد،دخل على أم سلمة، فذكر لها ما لقي من الناس، فقالت أ م سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ أ خرج، ثم لا تكلم أحدا منهم حتى تنحر بُدنك، وتدعو حلاقك فيحلقك، فخرج، فلم يكلم أ حدا منهم حتى فعل ذلك: نحر بُدنه ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا،حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما)) 6.
وهي قطعة ضمن الرواية الرئيسية الموجودة في سيرة ابن إسحق والواقدي وابن سعد والطبري وغيرها من المصادر الأم، ولكن هنا قد يثار سؤال عن مدى صحة هذه القطعة من الر واية الرئيسية، فقد تكون سِيْقت للتخفيف من وقع موقف الصحابي الجليل عمر بن الخطاب على المسلمين فيما بعد، فإذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه قد إ رتاب بصحة النبوة وشك بها في لحظة ما كما أعترف بذلك، وأتخذ ذلك الموقف الصلب، فإن بقية الصحابة،بل كل الصحابة بما فيهم علي بن أبي طالب عليه السلام قد عصى النبي، فلم ينحر ولم يحلق رغم أ نه أمرهم بذلك، وبذلك يخف ذلك الوقع المحتمل.
إن الموقف غير متجانس أبدا، ففي الوقت الذي يأمر به النبي النبي الصحابة أن ينحروا ويحلقوا يعصون، وفي الوقت الذي يجدون فيه النبي قد نحر وحلق فعلا يطيعون!
ما هو تفسير هذا الاضطراب في الموقف؟
مرّة واحدة يعصون جميعا،ومرّة واحدة يطيعون جميعا!!!
والمطلوب واحد لم يتغير ولم يتبدل!!
هل هي لعبة الموازنة الدقيقة؟
لكي نبرر موقف الصحابي الجليل نسوق هذا الاضطراب المثير للدهشة حقا؟
لعبة التاريخ والسياسة تقول إن ذلك ممكن، بل طبيعي، بل هو المادة التي حفلت بها محاولات المؤرخين في كثير من الازمنة والعصور.
لقد كان عدد الذين بايعوا النبي الكريم تحت الشجرة 1300 صحابي على أقل تقدير،فهل من المعقول أن تصدر هذه المفارقة من كل هذا العدد الكبير؟
هناك تطابق في مقتضى تأصيل التبرير، فإن الموقف العمري مرّ بمر بثلاث مراحل، الرفض ثم القبول ثم الألم، الشك ثم الايمان ثم لوم الذات، وكان هناك المنقذ، أبو بكر كان منقذا لحراجة الموقف العمري، هل نجد مثل هذه العناصر متوافرة في مفارقة الصحابة التي نحن بصددها؟
كان هناك عصيان ثم طاعة ثم ملامة تكاد تصل الى مقتلة مفجعة، وكان هناك ا لمنقذ للموقف، إنها أم سلمة رضي الله عنها.
ومهما يكن، فلو إفترضنا صحة الحدث، فلا مناص من تفسيره على ضوء النفس الانسانية مما تملك من طبائع التقلب والشك واليقين، وهي محاكمة مقبولة ومعهودة لدى عقال البشر، وإن أي محاكمة لها دينيا وفي ضوء المعايير الدينية تلج بنا عوالم الغيب المعقّد والصعب،وربما لا مناص حينئذ من التعسف والتعصب.
فهم غير ملومين فيما توصل بهم فهمهم للقضية من رفض ثم قبول، خاصة والمجتمع الصحابي لم يزل فتيا، وإلاّ أن الامر الصادر من النبي أولى بالاتباع من عمله، وأي إنقلابة هي التي عملت فيهم هذا التحول الكبير من العصيان إلى الطاعة إلى الملامة في ظرف لحظات معدودة؟!
ويبقى الشك بمفارقة الصحابة بهذه الكلية الجامعة قائما، وفي الشك هنا براءة للجميع، وخلاص من مفارقات تتبعها حيرة لا موجب لها على الاطلاق.

المصادر
(1): دلائل النبوة للبيهقي، تحقيق سيد إبراهيم، طبع دار الحديث، القاهرة، سنة 206 جزء 3 ص 83.
(2): الواقدي، مغازي الواقدي، تحقيق مارسدن جونسن، نشر دار دانش إسلامي، طهران، سنة 207، الجزء الاول ص 607.
(3): دلائل النبوة للبيقهي، جزء 3 ص 261.
(4): نفسه، 3 ص 84.
(5) مغازي الذهبي، تحقيق الدكتور عمر عبد ا لسلام تدمري، طبع ونشر دار الكتاب العربي، سنة 1987 ـ بيروت، طبعة أ ولى، مجلد واحد، ص390.
(6): صحيح البخاري، كتاب الشروط، حديث رقم 2732.