-1-
ما قدمته جامعة الدول العربية من مخارج وحلول لإبعاد عمر البشير عن شبح المحكمة الجنائية الدولية، فيه ضرر كبير للبشير، ولمن سيلحق بالبشير من الديكتاتورين العرب، ولمن سيتبعهم بعد ذلك. وهو نوع من الأفيون السياسي، الذي يتعاطاه الحاكم العربي، لكي ينسيه للحظات صراخ وآلام ضحاياه، ويُفرّج كربه.
فالمحكمة الجنائية الدولية، وعلى رأسها المدعي العام أوكامبو، لم يتخذوا قراراهم بشكل تعسفي، ولأطماع سياسية معينة. فلقد أدرك ووعى القاصي والداني من العرب والعجم، ومن الحجر والبشر، أن مسؤولية البشير وحكومته عن مجازر دارفور واضحة وبيّنة وضوح الشمس. ولكن لا السودان، ولا العرب متفرقين أو مجتمعين، ولا الدول الأفريقية، تستطيع تمكين البشير من الإفلات من ضرورة المثول أمام المحكمة الدولية الجنائية، لأن هذه المحكمة تمثل الشرعية الدولية، والإرادة الدولية التي لا رادَ لها، كالقدر، أو كالرعد القاصف تماماً.
-2-
الدواء المُسكِّن الذي اقترحته الجامعة العربية (عيادة العرب، وطبيب الأعشاب، والنطاسي الشهير عمرو موسى) والسودان، بإقامة محاكم سودانية تحت إشراف الجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة، هو ضحك على الذقون، و(تهليس) و(تهجيص)، و (شغل حشاشين) ودعارة سياسية ما بعدها من دعارة. وهو أمرٌ يباع بسهولة في أسواق خضار العالم العربي، ولكنه لا يباع في أروقة الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، والرأي العام الدولي، الذي ينكر العرب أثره، ودوره، وأهميته كل الإنكار.
فالكل يعلم، وأولهم الشعب السوداني، والبشير ذاته، بأن القضاء السوداني والقضاء العربي بشكل عام ndash; مع احترامنا الشديد لكل القضاة العرب المغلوبين على أمرهم ndash; هو خاتم من التنك، ذو فص (فالصو) في إصبع الحاكم، يخلعه متى شاء، ويثبّته متى شاء. والقضاء في العالم العربي رهن إشارة الحاكم. وهذا ليس بالأمر الجديد، بل هو واقع منذ عهود طويلة. وهذا ما دفع بالإمام أبي حنيفة إلى رفض منصب القضاء، في عهد الخليفة العباسي المنصور، وقال أبو حنيفة للخليفة، ذلك القول المشهور، في باب القضاء النزيه والشجاع:
quot;اتق الله، ولا ترع أمانتك إلا من يخاف الله.
والله ما أنا بمأمون الرضا، فكيف أكون مأمون الغضب؟
ولو اتجه الحكم عليك، ثم هددتني أن تغرقني في نهر الفرات، أو أن آلي (انقض) الحكم، لاخترتُ الغرق.
لك حاشية، يحتاجون إلى من يكرمهم لك، فلا أصلحُ أنا لذلكquot;.
فرد عليه الخليفة المنصور غاضباً:
كذبت، أنت تصلُح!
فتبسَّم أبو حنيفة، وقال:
قد حكمت على نفسك، كيف يحلُّ لك أن تولّي من هو كذاب؟
وكان جزاء أبي حنيفة، الحبس والموت.

-3-
وما زال الحال في العالم العربي حتى الآن على هذا النحو.
فهل يستطيع قاضٍ سوداني، أن يقول للبشير قول أبي حنيفة، فيكون مصيره الموت أو السجن المؤبد؟
وهذا ما ينطبق أيضاً على غالبية القضاة العرب.
فما رأيكم بالقضاء السوري، والليبي، والمصري، والمغربي، والخليجي بشكل عام؟
هل هناك عدالة؟
وهل القضاء حر، وليس مُسيَّساً؟
فكيف نثق بالقضاء السوداني، الذي لا يقدر على جلب وزير أو حتى مسؤول صغير لساحة العدالة، فما بالك بالزعيم المزعوم البشير، الذي راح يجول بالأمس في مدن دارفور، وهو يحمل عصا المارشالية، ويرقص رقصة النصر على جثث الآلاف من ضحايا دارفور، دون حياء أو خجل، أو وخز ضمير، ويكيل السباب والتهم للمدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية.

-4-
لقد أصبح القاضي والمدعي العام أوكامبو بين يوم وليلة، هو العميل، وهو الخائن، وهو الامبريالي، وهو عصا أمريكا المجرمة، وبوق الصهيونية (أمريكا وإسرائيل لم توقعا على قرار إنشاء محكمة الجنايات الدولية) وهو المرتزق، وهو ابن زانية، ومرتكب للفواحش، إلى آخر هذه الاتهامات والألقاب السوقيّة، التي يطلقها الإعلام السوداني والإعلام العربي الديني والقومجي على المدعي العام الأرجنتيني أوكامبو، لا لسبب، إلا لأنه طلب محاكمة زعيم عربي مزعوم على جرائم ارتكبت. وربما تقوم غداً مجموعة من رجال الدين في السودان، ويثبتوا ndash; شرعاً وقهراً - أن البشير سيّد من أسياد آل البيت، المُحرَّمة دماؤهم، كما سبق لحسن الترابي أن فعل ذلك مع الديكتاتور السابق جعفر النميري، ولقَّبه بـ quot;أمير المؤمنينquot;!
فنحن لا نملك تجاه الحق والعدل إلا أن نشتم الحق والعدل، ونكيل لهما التهم، دون أن نفكر، قبل أن نقدم على جرائمنا بحق شعوبنا، بالمحاكم الجنائية الدولية التي تترصد، وتتابع هذه الجرائم، غير غافلة عنها، في عصر عولمة كل مظاهر الحياة السياسية والقضائية والاقتصادية.

-5-
لا شك، في أن السياسة تتدخل في أمور المحكمة الجنائية الدولية. وأن السياسة في هذا العصر، قد أصبحت كملح الطعام، توجد في كل طبق بمقدار. ولكن هذا التدخل ndash; على عكس المحاكم العربية- يبقى في أضيق نطاق، وفي أضيق الحدود. وتظل الجرعة القانونية والعدلية في هذه المحاكم أكبر بكثير من الجرعة السياسية أو جرعة التسييس.
فالسياسة في المحاكم الدولية كملح الطعام، أما السياسة في المحاكم العربية فهي الملح كله.
وعلينا أن ندرك بأن الشرعية الدولية غير غافلة عما نفعل بأنفسنا وبغيرنا في أوطاننا. ولكن لكلٍ ساعته، ولكلٍ ميقاته وأجله، كما سبق وقلنا.

-6-
لن يُبرِّيء البشير، أو يُجنّبه الملاحقة الجنائية الدولية، عمرو بيه موسى، ولا الجامعة العربية، ولا الدول العربية، ولا الدول الأفريقية، ولا جولات البشير الحالية في إقليم دارفور، ولا الرقص بالعصا المارشالية في فورة عاطفية مجنونة على جثث الضحايا، أمام جمهور دارفور الجائع والعاري والمشرَّد، الذي يحسب أن البشير هو المهدي المنتظر، الذي سيطعمهم، ويكسيهم، ويُسكّنهم، ويوفر لهم الأمن والسلام. وما جاءهم البشير إلا ليفلت من الحساب والعقاب، ويرتكب المزيد من الجرائم.
فالبشير، ومعه الجامعة العربية، والاتحاد الأفريقي، والحكام العرب والأفارقة، وعدد كبير من المثقفين والإعلاميين العرب - وأنا أولهم- كانوا ينامون في العسل، غافلين عما يحدث طيلة السنوات الماضية من جرائم إنسانية في دارفور. ولم يحركوا ساكناً، طيلة السنوات الماضية التي كان فيها سكان دارفور يُذبحون، وتُنتهك أعراض نسائهم، وتُسرق مواشيهم، وتُهدم بيوتهم. ولم نرَ أو نسمع بمظاهرة احتجاج، أو نقرأ بياناً استنكارياً، لما يحدث في دارفور من جرائم بشعة، وكأننا حجارة، تنبو الحوادث عنا، ونحن ملمومون، كما قال الشاعر الجاهلي تميم بن مقبل، في بيت من شعره الشهير:
ما أطيبَ العيشَ لو أن الفتى حجرٌ
تنبو الحـوادثُ عنه وهو مـلمومُ
وقد طابَ لنا العيش، حين أصبحنا حجارة صمَّاء، تُحيطُ بنا الجرائم من كل مكان، ونحن عنها غافلين، وساكتين، وخانعين.
السلام عليكم.