-1-
كان المخرج العربي الشهير يوسف شاهين، من أكثر المخرجين السينمائيين العرب، إثارةً، ونقداً للمسكوت عنه، والمخبّأ، والمستور، ومن هنا جاء تميّزه، وجاءت فرادته.
كانت أفلامه، تتطلب لمشاهدتها إعمال الفكر، والتأمل فيها، لكي يفهم معناها العميق ومرماها البعيد المشاهد.
فلم تكن أفلامه للمتعة، والفرفشة، و(قزقزة اللب) أمامها، ولقاء الحبيب بحبيبته في ظلام صالة السينما.
لقد كانت بعض أفلامه مُضجرة، ومملة، وغير مفهومه لجمهور مصري وعربي عريض، اعتاد وعاش على أفلام الحب الرومانسي المكشوف، والسهل، والخفيف، واعتاد على مشاهدة أفلام تقدم شرائح واضحة، وسطحية، ومفهومة من المجتمع المصري خاصة، ولا عناء في فهمها، ولا جهد في فكِّ رموزها.
-2-
أفلام يوسف شاهين كانت تغور في الأعماق، ولا تكتفي بما تراه الكاميرا على السطح.
كانت كاميراته كالبلدوزرات الحافرة، وكأنها تبحث عن كنوز ثمينة مخبأة، في باطن الأرض.
لم تكن أفلام يوسف شاهين لمشاهد اليوم، الذي يبحث معظمه عن السطحية والسهولة، التي تعفيه من تشغيل عقله المتعب بمشاكل يومه، ولكنها لمشاهد الغد، الذي سوف يكون وعيه وثقافته ونظرته للأمور، ولكل ما يحيط به، نظرة مختلفة ومتطورة، عمّا هي عليه اليوم.
لذا، أنتج يوسف شاهين سينما وأفلام للمستقبل، وليست لليوم، رغم أنها تكشف عن مسكوت، وأمراض اليوم.

-3-
لم يكن يوسف شاهين يهمه شباك التذاكر وإيراداته كثيراً. وكان يعلم، بأنه لا ينتج سينما جماهيرية شعبوية، تدر الملايين على أصحابها، وتصفِّق لها الملايين، ولكنه كان ينتج سينما النقد والعقل.
لم يكن ينتج سينما ما يطلبه الجمهور، ولكنه كان ينتج سينما ما يجب أن يشاهده الجمهور، وما يحتاجه أن يشاهده هذا الجمهور.
وكان يوسف شاهين في هذا الاتجاه الليبرالي الحداثي السينمائي متميزاً، ووحيداً، وفريداً، في السينما المصرية والعربية.
وكان يوسف شاهين بذلك، النسخة العربية المُطوَّرة والحديثة، لشارلي شابلن، مبدع سينما النقد، والكشف عن المستور.

-4-
كان يوسف شاهين في حياته العامة ناقداً شجاعاً لذاته، ولذوات الآخرين، وللذات الجمَعية بشكل عام. ومن هنا نبعت ليبراليته المتميزة، وحداثته الفنية.
فأخرج وأنتج عدة أفلام، تنتقد ذاته أولا من خلا ل أفلامه: (اسكندرية ليه)، و (حدوتة مصرية)، و (اسكندرية كمان وكمان)، و (اسكندرية ndash; نيويورك). ثم انتقل إلى نقد ذات الأمة، وذات فكرها السياسي، والثقافي، والديني من خلال أفلامه: (العصفور)، و (الأرض)، و (المهاجر)، و (الاختيار)، و (المصير)، و ( هي فوضى)، و (حين مسرة)، وغيرها.
ونلاحظ هنا، من خلال أسماء أفلامه، أنها أسماء غير تجارية وغير شعبوية، وتكاد تكون عناوين لمدونات فكرية، أكثر منها عناوين لأفلام سينمائية تجارية.
-5-
أهم ما في أفلام يوسف شاهين، كانت الفكرة التي يريد طرحها ومعالجتها. لذا، أُطلقت على أفلامه quot;أفلام الحداثةquot;، الذي كان أول من ابتدعها في السينما المصرية والعربية، وتجلّت أكثر ما تجلّت في فيلمه (المصير) عن محنة المفكر الحداثي ابن رشد.
وتتجلّى حداثته السينمائية أكثر بأكثر، بجرأته على نقد الذات والمجتمع، وبإيمانه المطلق بالحرية بالديمقراطية والعلمانية.
ولو لم يكن يوسف شاهين مخرجاً سينمائياً ليبرالياً، لكان كاتباً وفناناً حداثياً ليبرالياً من الطراز النادر.
لذا، لم يكن يوسف شاهين يعتمد كثيراً على كتّاب السيناريوهات لأفلامه، فكان هو الذي يشارك مشاركة فعالة في كتابة سيناريوهات أفلامه، حتى كاد أن يكون هو المنتج، والمخرج، وكاتب السيناريو، والممثل أيضاً، في بعض أفلامه، وذلك لعدم توفر المنتج، والمخرج، وكاتب السيناريو الحداثي.
وعندما نطلق على فيلم من أفلامه بأنه فيلم يوسف شاهين، فلا نعني بذلك، أنه هو مخرج هذا الفيلم، بقدر ما نعني أن هذه الفيلم بلحمه ودمه، هو يوسف شاهين الفنان الحداثي ككل.
فكل ما كان يفكر فيه يوسف شاهين، ويتألم منه، ويحتجّ عليه، ويريد فضح سره، وكشفه، وإزاحة الغطاء عنه، قدمه لنا من خلال الصورة السينمائية المبدعة. ورغم هذه الكثافة الفكرية في أفلامه، إلا أن أفلامه لم تكن خطابات فكرية سياسية واجتماعية مملة، بقدر ما كانت فناً ملتزماً أشد الالتزام، وتنطبق عليها صفة الفن العضوي، كما تنطبق على يوسف شاهين صفة المثقف العضوي، التي قال بها انطونيو غرامشي.
فكما كان غارسيا ماركيز في الرواية الكولومبية العالمية، رائد الواقعية السحرية في الرواية، ونال عليها جائزة نوبل، فكذلك كان يوسف شاهين في السينما العربية، ونال عليها عدة جوائز عالمية وفنية.
-6-
أفلام يوسف شاهين، وتموضع يوسف شاهين في المجتمع المصري، وهو المسيحي المهاجر من لبنان إلى مصر، مع موجات الهجرة النخبوية الشامية إلى مصر في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، هرباً من الاضطهاد العثماني، أنسانا نحن تماماً ذلك التصنيف المشين للشعب المصري، بين مسلم ومسيحي. فنسبة عالية من العرب والمصريين، لم تكن تعلم أن يوسف شاهين كان مسيحياً. وكانت تعرف فقط أنه مصري.. ومصري فقط. كذلك الحال، كان مع نجم المسرح الفكاهي الرائع المسيحي العراقي الأصل نجيب الريحاني، والمغنية اليهودية ليلى مراد، والممثل المسيحي اللبناني الأصل عمر الشريف وغيرهم. وهذا ما يثبت لنا بأن الثقافة، وبأن الفن خاصة، هما الكفيلان بمحو الفروق الدينية والعنصرية، وليست خطب الخطباء، وبيانات السياسيين وقراراتهم.

-7-
آمل أن يكون يوسف شاهين، قد ترك خلفه مجموعة من أتباعه وتلاميذه في مدرسته السينمائية، كالمخرج خالد يوسف، الذي اشترك معه في إخراج فيلمه الأخير (حين مسرة). فامتداد مدرسة يوسف شاهين هو الكفيل بأن يشدَّ من عضد السينما الليبرالية الحداثية العربية، التي ترفد الفكر السياسي والثقافة الليبرالية، وتوسع من دائرة معالجاتها، وتنقلها من سينما (الأونطة)، و(الهلس)، والتسلية المجانية، والضحك الهستيري، إلى سينما الواقع الأليم، والتفكير بما نحن فيه، وطرح الأسئلة المختلفة على هذا الواقع. وبذا تساهم الحداثة السينمائية في معركة الحداثة العربية الشاملة.
وسيبقى يوسف شاهين، الغائب الحاضر بيننا، بفنه الحداثي، وتفرده المُميز.
السلام عليكم.