مفهوم الزعامة السياسية ليس واحدا في الثقافات السياسية المختلفة، كما شهد تطورات وفق مراحل التطور، ووفق تباين ظروف وأوضاع المجتمعات، والدول.
في الإمبراطوريات القديمة كان الإمبراطور هو الزعيم الأوحد بلا منازع، وهو الذي يقرر، ويفصل، وعلى الجماهير الطاعة أيا كانت تعليمات الزعيم، ولعل مفهوم الزعيم في الصين القديمة مثال صارخ يستحق التوقف لديه.
لقد حلل الفيلسوف هيجل تحليلا دقيقاً وشاملاً، تطبيقات مفهوم الصين القديمة في ' محاضرات في فلسفة التاريخ، الجزء الثاني، العالم الشرقي'. إن الدكتور إمام عبد الفتاح إمام، مترجم المحاضرات، والمعلق عليها، ويلخص آراء هيجل في الموضوع، كالتالي:
الإمبراطور يتربع على قمة البناء السياسي، وهو المركز الذي يدور حوله كل شيء، وبالتالي فإن رخاء البلاد، و سعادة الناس، يعتمدان عليه.
يقول هيجل: 'إن الناس في بلادنا متساوون أمام القانون وحده، وفي احترام كل منهم لملكية الآخرين، لكنهم يختلفون بعد ذلك من حيث أن لديهم الكثير من المصالح، والامتيازات الجزئية الخاصة، التي لابد أن تكون مكفولة إن كنا نريد أن يكون لنا ما نسميه حرية، لكن هذه المصالح الخاصة في الإمبراطورية الصينية ليس لها أي اعتبار وتعتمد الحكومة في إدارتها لشؤون الدولة على الإمبراطور وحده.'
كان المجتمع الصيني بترياركيا، يبدأ ذلك من العائلة حيث الأب كل شيء، والولد قبل البنت، وصعودا يصبح الإمبراطور هو ' أب الجميع، بلا منازع،[ نقطة ضوء: كان إذا ولد للأسرة بنات أكثر من حاجتها للعمل ترك في الحقول ليقضي عليهن صقيع الليل، أو الحيوانات الضارية].
إن هذا الفهم للزعامة هو أحد أوجه التقاطع في الحضارات القديمة، وقوامه السلطة الرعوية، ومع مرور الزمن تحول الملك إلى راع مكلف مباشرة من الله.
هذا المفهوم للزعامة السياسية يلخصه في الفكر السياسي والوجدان، العربيين، شعار 'الراعي والرعية'، فالزعيم هو المنقذ من الضلال، والعدوان، والفساد، وواهب الخيرات، وهو أب الجميع، ويرعاهم كما يرعى الراعي قطيع الغنم، وذلك مهما كانت صفة الزعيم، خليفة، أو إمام المؤمنين، أو سلطانا، أو قائدا، أو الفقيه الأعلى، ألخ.
في منتصف التسعينات الماضية أصدر الباحث التونسي محمد الحويلي كتابا فريدا بعنوان 'لزعيم السياسي في المخيال الإسلامي'، وهو كتاب يحفر في ما وراء المدونات، والمراجع التاريخية، والفقهية المكتوبة، للوصول إلى أعماق تصور العرب، والمسلمين، لمفهوم الزعامة، والزعيم، وهو تصور نشأ، وتطور على مدى أجيال، وله تأثير كبير في المواقف، والسياسات، وطبيعة الأنظمة، وهو راسخ في أعماق الوجدان الشعبي، لاسيما بين الجماهير الفقيرة، والشرائح المستضعفة، وكما يقول مقدم الكتاب، فعلى قدر تصور المواطن لمكانة الراعي، يكون استعداده لقبول التعسف منه، أو رفضه، وإقدامه على المشاركة في الحياة السياسية، أو الانزواء عنها.
إن الأستاذ حويلي يبين لنا، على أساس 'حفره' العميق في الفقه الإسلامي بمذهبيه، السني والشيعي، كيف أن فقهاء الفرق الإسلامية حولوا هذا المفهوم للزعامة إلى أيديولوجيات تبرر حكم الحاكم، وخضوع الأمة، [الرعية] له، ويوضح كيف يلتقي فقهاء الشيعة والسنة على السواء، عند هذا التفسير للزعامة، رغم أن بعض فرق السنة لا تؤمن بالعصمة، وتعتقد أن الحاكم قد يخطئ، ويورد لمؤلف مقتطفات من ابن تيمية الحنبلي، وأحمد النيسابوري، الشيعي، ترسخ كون الراعي هو كل شيء، ويقول الأخير 'إن غاية صفوة الحيوانات البشرية الاتحاد بالإمام'، ويلتقي هنا مع ابن تيمية إذ كلاهما يريان أن يجب الخضوع للحاكم، وطاعتهما بلا نشوز، فالأمة قطيع مشتت يأكل بعضه بعضا، بدون الراعي، والراعي، كما يقول المفكر الفرنسي فوكو، لا يهتم بالقطيع في جملته، وإنما يرعى كل عنصر بمفرده، فيجب أن يعرف الشاة الجرباء، [المخالف، والمعرض بمفاهيم اليوم] من السليمة. الفقهان الإسلاميان، التاركان بصماتهما على عقول العرب، والمسلمين حتى يومنا، يبشران بأنه لولا الراعي، أيا كانت الصفة الماحقة به، لما كان للبشر من نظام في دنياهم، ولا خلاص لبعضهم من فساد من هو أقوى منه، كما يعلن النيسابوري، وتقوم هذه السلطة، دينية، أو مدنية شمولية، على ثنائية 'تفاني'! الراعي، وطاعة الرعية، ومن خرج عن الطاعة يبقى بلا نفع، ولا فضيلة، 'كالسباع الكاسرة، والزواحف المضرة، لذا فقد حكم العقل، والشرع، بإتلافهم، وقتلهم، وهلاكهم.' [النيسابوري].
إن هذا المخزون الفكري، والفقهي، يستغله اليوم الحكام الدكتاتوريون، والشموليون، العرب، والمسلمون، و'يستفيد عدد منهم، من ممارسات الأنظمة الشمولية في العالم، مهما كانت طبيعتها، فيضاف ذلك إلى المخزون الموروث، لإقامة أنظمة القهر الدموي، والتعامل مع المعارضين وكأنهم الكواسر، والزواحف الضارة، الواجب قمعها بكل الأساليب، والخلاص منها، مهما كانت وحشية، ومهما خلت من ذرة من الروح الإنسانية. هنا لا توجد فروق جوهرية بين نظام 'مدني' كنظام صدام، وحافظ الأسد، و نظام ديني، كما في إيران، أو السودان، أو الطالبان بالأمس. كل من هذه الأنظمة، ومهما كان تباين الظروف، وأشكال الحكم، ومهما كان التباين في المنطلقات، والغايات، يسوس 'الرعية' كما يسوس الراعي قطيع الغنم، ومن عارض، وخاصم، يجب إتلافه، وتنظيف المجتمع منه. لقد تعلم صدام مثلا من أساليب القمع، الستالينية، والماوية، والنازية، رغم اختلاف طبيعة تلك الأنظمة، وهي اختلافات كبرى، ليطبق في عصر جديد، وفي أوضاع مختلفة، مقولة 'الراعي، والرعية، لكن من سوء حظ الأنظمة الديكتاتورية، والشمولية، أن العالم في تغير، وأن ما يجري في بلد ما يهم المجتمع الدولي.
إن معظم الحكومات تفسر مبدأ السيادة الوطنية، بسيادة النظام في كل دولة، والحال أن السيادة تعني سيادة الشعب أولا على أرضه. إن ميثاق الأمم المتحدة نص على احترام سيادة كل دولة ضمن حدودها الجغرافية، ويحظر التدخل الخارجي، ولكنه، في الوقت نفسه، قيد هذا الحق ضمن البند السابع، حيث يبيح التدخل الدولي، حتى العسكري، في حالة تهديد دولة ما للأمن، والسلام الدوليين؛ أما بعد انتهاء الحرب الباردة، وحرب الخليج الأولى، فقد ظهر مبدأ 'التدخل الإنساني'، أي حق تدخل المجتمع الدولي في حالة انتهاكات كبرى لحقوق الشعوب، والأقليات، وحروب إبادة عرقية، وكان وزير خارجية فرنسا الحالي من أوائل المبشرين بهذا الحق، ولذا أيد، بعد تأييد حرب الخليج الأولى، حرب إسقاط صدام. تضاف أيضا أمثلة تدخل الأطلسي في البوسنة، وصربيا، لوقف حرب الإبادة ضد المسلمين، التي اعتبرت جريمة ضد الإنسانية، تستدعي معاقبة مقترفيها أمام محكمة دولية، أسست حينذاك، والتي حاكمت عددا من كبار جلادي البلقان، في مقدمتهم ميلوسوفيتش، واليوم تحاكم الجلاد الأكبر الثاني. مثال آخر، مطالبة الادعاء العام لهذه المحكمة باعتقال عمر حسن البشير، ومحاكمته، على حرب الإبادة في دارفور، وأخيرا، لا آخرا!!، القرار الدولي بمحاكمة قتلة رفيق الحريري، والحبل على الجرار!! هناك طبعا ااعامل الداخلي، برغم أن الشارع هو غالبا ضحية عقلية الراعي، والرعية، لاسيما مع تصاعد موجة الإسلام السياسي، وقيام أنظمته في بعض الدول العربية، وإيران؛ نقول برغم ذلك هناك اليوم نخب ثقافية، وسياسية، نرفض هذه الأفكار، وتعارض الأنظمة المستبدة، على اختلاف طبيعتها، معارضة متعددة الأساليب، وذلك حسب الظروف الملموسة
.