بعد إنتشار مفهومه في العصر الحديث
هل المستقبل للذين يملكون ذكاءً إنفعاليًا مرتفعًا؟



إعداد : الدكتورة آمال جودة:مع تزايد التقدم الحضاري والتكنولوجي وما رافقه من سيادة للقيم المادية، ومظاهر مختلفة للعنف والإرهاب وانتهاك لأبسط حقوق الإنسان، فطن العلماء في العشرين سنة الأخيرة الماضية إلى أهمية فهم الإنسان لذاته وفهمه للآخرين، وقدرته على استخدام وتوظيف هذا الفهم، الذي يمكنه من السيطرة على مشاعره وانفعالاته، والتحكم فيها، وينمي لديه القدرة على فهم مشاعر الآخرين والتعاطف معهم ومساندتهم.
وعلى الرغم من ازدياد اهتمام العلماء في مجال التربية وعلم النفس بأهمية فهم الإنسان لذاته ومشاعره، إلاّ أن لذلك أصولاً راسخة تجلت إرهاصاتها فيما يعرف بحكمة سقراط quot;اعرف نفسكquot;، تلك المقولة التي تعتبر حجر الزاوية في الذكاء الوجداني، وتعني وعي الفرد بمشاعره حين حدوثها.
والوعي بالانفعالات والمشاعر هو الكفاءة الوجدانية الأساسية التي ينبني عليها غيرها من الكفاءات الشخصية مثل ضبط النفس... إذ إن المشاعر تؤدي دورًا أساسيًا في تسيير الحياة وما يصاحبها من القرارات الشخصية... وبقدر ما تدفعنا مشاعر الحماسة، والاستمتاع بما نقوم به من عمل، وكذلك مشاعر القلق المتزن الإيجابي فإننا نحقق إنجازات في حياتنا، وهذا ما نعنيه حين نقول إن الذكاء الوجداني طاقة تؤثر بشدة وعمق على كل القدرات الأخرى، إيجابًا أو سلبًا، تيسيرًا أو إعاقة.
وأسفرت نتائج بعض الدراسات عن أن الأفراد الذين يتصفون بالذكاء الانفعالي المرتفع أكثر اتصافًا بالخصائص الابتكارية، وأكثر قدرة على استخدام أساليب المواجهة والدفاع التكيفية، كما أسفرت نتائج الدراسات التي تناولت الذكاء الانفعالي أنه يعمل على خلق توازن الفرد مع العالم وزيادة فاعليته وإدارته لذاته، ويخفض درجة مؤشرات المشقة لديه، ويساعده على التكيف الاجتماعي، حيث يعتبر الذكاء الانفعالي منبئًا جيدًا عما إذا كان الفرد في إمكانه تكوين شبكة علاقات اجتماعية جيدة أم لا، وبالتالي يعزز ثقة الفرد بنفسه، ويزيد من تقديره لذاته، وبالتالي يحقق له الرفاهية، والسعادة، والرضا عن الحياة.
ويعد مفهوم الذكاء الانفعالي Emotional Intelligence من المفاهيم التي شاع انتشارها في العصر الحديث، إذ إن هذا المفهوم ولد في التسعينيات من القرن الماضي، ومن الأسباب التي أدت إلى شيوع هذا المفهوم هو النظر إليه على أنه أفضل منبئ للنجاح في الحياة الاجتماعية. حيث لاحظ العلماء والباحثون أن نجاح المرء وسعادته في هذه الحياة يتوقفان على مهارات لا علاقة لها بذكائه العقلي الذي يعبر عن نفسه عادة بالدرجات العالية في المدرسة والجامعة والتحصيل الأكاديمي المرتفع. وفي هذا الصدد يرى جولمان Goleman أن الذكاء الانفعالي يسهم بحوالى 80% من النجاح في الحياة، بينما الذكاء المعرفي لا يسهم بأكثر من 20%.
ولئن كان الذكاء الانفعالي من المفاهيم الحديثة في التراث السيكولوجي، فإن له جذوره البعيدة التي ترجع إلى الوقت الذي اهتم فيه العلماء بأهمية الجوانب غير المعرفية في تعريفهم للذكاء، ويظهر ذلك جلياً عندما أدرك وكسلر في وقت مبكر في العام 1943 أهمية الجوانب غير المعرفية للذكاء وقدرتها في التنبؤ بقدرة الفرد على النجاح في الحياة، ولم يكن وكسلر الوحيد الذي أدرك أهمية الجوانب غير المعرفية للذكاء، إذ أن الذكاء الانفعالي يتماثل مع الذكاء الاجتماعي الذي أورده ثورنديك Thorndike في العشرينيات من القرن الماضي، حيث تحدث ثورنديك عن الجوانب الاجتماعية كمظهر من مظاهر الذكاء، وعرف الذكاء الاجتماعي على أنه quot;القدرة على فهم المشاعر والإحساسات الداخلية، أو الحالات العاطفية والوجدانية للأشخاص الآخرين، كما يبدو في تعبيرات الوجه، أو نبرات الصوت، أو السلوك التعبيريquot;.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الذكاء الانفعالي هو quot;إدراك الفرد لقدرته على الانتباه والإدراك الجيد للانفعالات والمشاعر الذاتية، وفهمها، وصياغتها بوضوح، وتنظيمها وفقًا لمراقبة وإدراك دقيقين لانفعالات الآخرين ومشاعرهم للدخول معهم في علاقات انفعالية اجتماعية إيجابية تساعد الفرد على الرقي العقلي، والانفعالي والمهني، وتعلم المزيد من المهارات الإيجابية للحياةquot;.
نستطيع القول هنا أن المستقبل سيكون لأولئك الذين يمتلكون معدلات ذكاء انفعالي مرتفعة، تمكنهم من فهم وضبط انفعالاتهم، ويشعرون بانفعالات إيجابية تعكس مدى كفاءتهم في التعامل مع الأحداث ومع المواقف غير المناسبة، وبالتالي تسبب لهم تفاعلاً أفضل مع العالم، من خلال بناء الصداقات والمزيد من الإنتاجية والدخل، وهؤلاء يتسمون بالثقة بالنفس وهي التي تساعدهم على مواجهة تحديات الحياة والتكيف مع خبراتها الجديدة، وتؤهلهم لتولي مناصب قيادية في مجتمعاتهم.

*** أستاذ علم الصحة النفسية المشارك- جامعة الأقصى