الطب الحديث يثبت ما نطق به الرسول محمد قبل 14 قرناً
للصيام فوائد كثيرة جسدياً ونفسياً

تحقيق: باسم البكور

"صوموا تصحوا". قالها النبي العربي محمد في بدايات دعوته الى الاسلام. وها هو العلم الطبي الحديث يثبت اليوم صحة ما نطق به الرسول قبل اربعة عشر قرنا. في ما يأتي تحقيق يسلّط الضوء على الفوائد الصحية للصوم جسدياً ونفسياً.

لم يكن هاني (33 عاما) يعرف الالتزام الديني في حياته اليومية حين سافر الى اوكرانيا لدراسة الطب قبل اكثر من 12 عاما. بل كان يجهل تماما، آنذاك، الاركان الخمسة الاساسية التي يقوم عليها دينه (الاسلام)، متأثرا بوالده البعثي (العراقي) الذي كان يغرس افكاره العلمانية في نفوس ابنائه الثلاثة منذ نعومة اظفارهم.

وهناك، اي في اوكرانيا المعتنقة الشيوعية حتى النخاع، صُدم هاني بأستاذه الجامعي الذي استغرب مشاهدة تلميذه المسلم يتناول الغداء مع زملائه في كافيتيريا الجامعة في احد ايام شهر رمضان. فناداه من بعيد ليسأله: "ألست مسلما؟". فأجابه هاني باستغراب: "نعم!". فقال له استاذه الجامعي (المسيحي): "ولماذا، اذاً، لست صائما في رمضان؟". فأجابه: "لأنني، ببساطة، لست ملتزما تعاليم ديني، مثل كثيرين من المسلمين في بلدي لبنان". فجاءه جواب استاذه صادما: "اذا علمتَ فوائد الصوم الصحية لصمتَ شهر رمضان كاملا حتى ولو كنت ملحدا، فكيف الامر وانت مسلم؟".

توقف هاني كثيرا عند كلام استاذه الاوكراني المتخصص في الفيزياء الحيوية الجزئية والطبية، والذي امضى حوالى سبع سنوات من عمره، خلال الستينات من القرن المنصرم، في بحث طبي معمّق عن آثار الصوم الاسلامي على صحة الجسد. فتوصّل الى نتائج علمية باهرة مفادها ان صيام شهر كامل في العام، على الطريقة الاسلامية، هو في مثابة دورة طبية مجانية يتلقاها الانسان المسلم سنويا، فتعمل على صون "اجهزة" الجسم والمحافظة عليها. وبناء على ما خرجت به نتائج بحوثه المعمقة، قرر البروفسور الاوكراني صيام شهر كامل سنويا وفق الشروط والقوانين الفيزيولوجية التي وضعها الاسلام. وما كان من هاني، بعد اطلاعه على تفاصيل بحث استاذه الجامعي عن الصيام، الا ان اعاد حساباته حول علاقته بربه. فتعرّف في اوكرانيا على دينه للمرة الاولى، ليعود بعد حوالى سبع سنوات، طبيبا ملتزما تعاليم دينه بعدما خرج من لبنان طالبا علمانيا لا يفقه من الاسلام "ثلث الثلاثة"، بحسب التعبير اللبناني الشعبي.

أثر الصيام نفسياً

تتفق الاديان السماوية الثلاثة (اليهودية والمسيحية والاسلام) على عبادة الصيام، رغم اختلاف شعائره وطقوسه من دين الى آخر. وثمة اعتقاد خاطئ لدى العامة مفاده ان الصيام فريضة الهية نزلت فقط في الكتب السماوية الثلاثة، التوراة والانجيل والقرآن. في حين ان معتقدات كثيرة لا اصل او كتابات سماوية لها فرضت الصوم على اتباعها، كالوثنية والطاوية والبوذية والكونفوشيوسية والهندوسية... وغيرها. فمنذ ان خلق الله الكون لا تكاد تخلو حضارة قديمة او ديانة او طائفة من ممارسة الصوم، باشكال مختلفة تحقيقا لغاية واحدة مشتركة، هي ارضاء الخالق والتقرب اليه وتطهير النفس من الذنوب والسمو بها. فيكون للصيام اثره البالغ في تعميق الخشوع والاحساس بالسكينة، والتحكم في الشهوات وانماء الشخصية، بمعنى النضج وتحمل المسؤولية والراحة النفسية. "انه يعطي الفرصة للانسان لكي يفكر في ذاته، ويعمل على التوازن الذي يؤدّي الى الصحة النفسية. وبالطبع فان الصيام يدرب الانسان، وينمي قدرته على التحكم في الذات. انه يُخضع كل ميول الدنيا لسيطرة الارادة، وكل ذلك يتم بقوة الايمان"، بحسب تعبير الدكتور موسى الخطيب، موضحا ان شهر الصوم المبارك يزيد من قوة الانسان وقدرته على التغلب على الشهوات. فالصيام ليس امتناعا عن الطعام والشراب فقط... ولكنه، قبل ذلك، امتناع عن العدوان والشهوات وميول الشر. وثمة "فائدة اخرى للصيام: انه يخضع الملذات لارادة الفرد. فعند الصيام يحدث نقص في سكّر الدم، وهذا يسبب نوعا من الفتور والكسل والسكينة. وهذه الاحاسيس تؤدي الى نوع من الضعف والقابلية للايحاء... ومن ثم يكون الانسان في حالة من التواضع وعدم الاختيال بالذات، مع احساس بالضعف الديني. ومن هنا يأتي الخشوع والاتجاه الصحيح الى الله. الامر الذي يعزز ايمان الانسان ويقوي عقيدته".

يقول الدكتور الكسيس كاريك (الحائز جائزة نوبل في الطب) في كتابه "الانسان ذلك المجهول" الذي يعتبره الاطباء حجة في الطب، ما نصه:

"ان كثرة وجبات الطعام وانتظامها ووفرتها تعطل وظيفة ادت دورا عظيما في بقاء الاجناس البشرية، وهي وظيفة التكيف على قلة الطعام. ولذلك كان الناس يلتزمون الصوم وحرمان الطعام. اذ يحدث اول الامر الشعور بالجوع، ويحدث احيانا التهيج العصبي، ثم يعقب ذلك شعور بالضعف، بيد انه الى جانب ذلك تحدث ظواهر خفية اهم بكثير، ذاك ان سكر الكبد سيتحرك، ويتحرك معه ايضا الدهن المخزون تحت الجلد، وبروتينات العضل والغدد وخلايا الكبد، وتضحي جميع الاعضاء بمادتها الخاصة للابقاء على كمال الوسيط الداخلي، وسلامة القلب. ان الصوم ينظف ويبدل انسجتنا". وهذا كما يقول الدكتور الخطيب من شأنه ان يؤدي، في نهاية المطاف، الى التخفيف من حدة المعاناة، والآلام في كثير من الحالات النفسية والعقلية، بفعل التغيير الذي يحدث في ايقاعات المريض (بالاكتئاب مثلا) البيولوجية النهارية والليلية، وهو ما يؤثر على هورموناته العصبية... فتشهد حالته الصحية (النفسية) تحسنا كبيرا.

... وفوائده جسدياً

مع بزوغ عصر النهضة العلمية في اوروبا، اخذ العلماء يطالبون الناس بعدم الافراط في تناول الطعام والانغماس في الملذات، مقترحين الصوم تخفيفا من ذلك، حتى قال احدهم مخاطبا قومه: "يا ايطاليا البائسة المسكينة الا ترين ان الشهوة تقود الى موت مواطنيك اكثر من اي وباء منتشر او حرب كاسحة؟ ان هذه المآدب المشينة الواسعة الانتشار اليوم لها من النتائج الضارة ما يوازي اعنف المعارك الحربية. لذا علينا الا نأكل الا بقدر ما هو ضروري لتسيير اجسامنا بشكل مناسب، وان اية زيادة في ما نتناوله من كميات الطعام تعطينا سرورا آنيا، ولكن علينا في النهاية ان ندفع نتائج ذلك مرضا، بل موتا في بعض الاحيان". وهكذا، يأتي الصيام ليكون شهادة صحية لاجهزة الجسم بالسلامة. وفي هذا السياق يقول الدكتور ماك فادون، وهو احد الاطباء الغربيين العاملين الذين اهتموا بدراسة الصوم واثره: "إن كل انسان يحتاج الى الصوم، وإن لم يكن مريضا، لان سموم الاغذية والادوية تتجمع في الجسم فتجعله كالمريض وتثقله، فيقل نشاطه، فإذا صام الانسان تخلص من اعباء هذه السموم، وشعر بنشاط وقوة لا عهد له بهما من قبل".

لذلك شرّع الله الصيام، تزكية لنفس الانسان وتهذيبا لسلوكه، ووقاية وعلاجا لما قد يصيبه من علل وآفات في نفسه وجسده والناتجة من كثرة الاكل ودوامه. وكما تحتاج اجسامنا الى النوم لترتاح، لذلك تحتاج اعضاؤنا الى الصوم لتصح. وقد اثبتت الدراسات العلمية والبحوث الطبية فوائد صحية كبيرة للصيام على اعضاء الجسد كلها، من القلب الى الدم الى الكلي والكبد، الى الدماغ والعين، الى المفاصل والخلايا... وحتى الجلد.

القلب

ان حوالى عشرة في المئة من كمية الدم التي يدفع بها القلب الى الجسم تذهب الى الجهاز الهضمي لانجاز عملية الهضم. اثناء الصوم، تنخفض هذه النسبة بشكل كبير، وهو ما يعني عملا اقل للقلب، وبالتالي قدرا من الراحة.

ونتيجة لاحتراق جزء من الشحوم المخزونة في الجسم اثناء الصيام، تتناقص نسبة مادة الكوليسترول في الدم، وهي المادة التي تترسب على جدار الشرايين مسببة تصلب الشرايين وارتفاع ضغط الدم وتجلّط الدم في شرايين القلب والمخ".

الدم

اثناء الصيام لا يحدث تغيير في حجم كرات الدم او نسبة الهيموغلوبين فيه، ولا تتأثر نسبة البروتيين المهم في بناء الجسم ومناعته، وهو ما يحافظ على نشاط الجسم وحيويته اثناء الصيام. كما ان عدم شرب الماء يقلل من حجم الدم داخل الاوعية الدموية، فيزيد افراز البروستجلاندين الذي ينشط الآلية المنظمة للاوعية، وله دور حيوي في تنشيط خلايا الدم، وتثبيط القرح المعوية، ويسهل عملية الولادة.

الكلى

ان عدم تناول الماء لحوالى 10 الى 12 ساعة يوميا يفيد الكلى في كثير من الاحيان، حيث يزيد تركيز سوائل الجسم محدثة جفافا بسيطا يتحمله الجسم لوجود مخزون كاف، فيعطي بذلك الكلى استراحة موقتة للتخلص من الفضلات. هذا بدوره يؤدي الى انخفاض بسيط في ضغط الدم يتحمله الشخص العادي، ومفيد لمرضى ارتفاع ضغط الدم. كما انه اثناء الصوم يزيد تركيز املاح مثل الصوديوم، والبوتاسيوم، وينقص الكالسيوم مع استهلاك الشحوم، فيمنع الترسبات الكلسية المسببة للحصى، والاكياس الدهنية والاورام في بدايتها.

الكبد

ينشط الكبد اثناء الصيام، حيث يضطر الجسم الى الاعتماد على الشحوم المختزنة به، فتتحول كميات هائلة منها الى الكبد، ليؤكسدها حتى ينتفع بها الجسم، فيقوم الكبد بازالة سمومها ويتخلص من تلك السموم عبر الجهاز البولي، وفي هذه الاثناء تكون عمليات الهدم (استغلال الشحوم المخزنة) اعلى من البناء (تخزين الشحوم)، وهو ما يخلص الكبد من مخزونه من الشحوم، فتنشط الخلايا الكبدية.

العين

يزيد تركيز الدم، اي تقل نسبة الماء فيه، اثناء الصيام. الامر الذي يؤدي الى انخفاض في معدل افرازات الغدد المختلفة في الجسم، ومنها السائل المائي للعين المسؤول عن حفظ العين فيزيويولجيا، فينخفض ضغط العين الداخلي، وهو ما يقلل من حدة بعض امراض العين الخطيرة مثل الجلوكوما (الماء الازرق) كما يندر حدوث مضاعفات امراض الشبكية.

الدماغ

يرغم الصيام الجسم على استهلاك جزء من الشحوم المخزنة فيه، فتنخفض نسبة الكوليسترول في الدم التي تعتبر المسؤول الاول عن السكتات الدماغية، لذا يندر حدوثها اثناء الصيام.

المفاصل

تزداد في فترة الصيام القدرة على التخلص من النفايات والمواد السامة والجراثيم التي تسبب آلام المفاصل والتي لم يجد لها الطب الحديث علاجا حتى الآن. واثناء الصيام تنقص سرعة الترسيب وتتحسن الالتهابات. كما ان الصيام يعمل على تقليل نسبة الاصابة بمرض النقرس، وهو نتيجة زيادة ترسيب حمض البوليك في المفاصل نتيجة الاكثار من تناول اللحوم والتغذية غير الصحية.

الخلايا

طبيعة الجسم البشري ان "تموت" فيه حوالى 125 مليون خلية في الثانية الواحدة، ويتخلص منها الجسم ليبني خلايا جديدة بدلا منها، لكن الصيام يحرك الجسم لزيادة هذا العدد فيتخلص من بعض الخلايا الضعيفة المقبلة على الموت لمواجهة الجوع، وهو ما يُعَدّ فرصة ذهبية لهدم هذه الخلايا واعادة انتاجها بحسب احتياجات الجسم.

الجهاز الهضمي

يقل إفراز العصارة المعدية اثناء الصيام، حيث يعتمد افرازها على وجود طعام في الجهاز الهضمي، فتصبح حركة الامعاء بطيئة وتأخذ راحة ضرورية لتجديد نشاطها. كما اظهرت التجارب ضبط الصيام لحموضة المعدة الزائدة التي يعانيها عدد كبير من الناس، وبالتالي تقل فرص الاصابة بقرح الامعاء.

البنكرياس

يعطي الصيام غدة البنكرياس فرصة رائعة للراحة. فالبنكرياس يفرز الانسولين الذي يحوّل السكر مواد نشوية ودهنية تخزن في الانسجة، فاذا زاد الطعام على كمية الانسولين المفرزة يصاب البنكرياس بالارهاق والاعياء، ثم اخيرا يعجز عن القيام بوظيفته، فيتراكم السكر في الدم وتزيد معدلاته بالتدريج حتى يظهر مرض السكري.

الجلد

تقل نسبة الماء في الدم اثناء الصيام، وبالتالي تقل نسبته في الجلد. الامر الذي يفيد في علاج الامراض الجلدية اذ يؤدي الى:

- زيادة مناعة الجلد ومقاومة الميكروبات والامراض المعدية الجرثومية.

- الحد من قوة الامراض الجلدية التي تنتشر على مساحات واسعة من الجسم مثل مرض الصدفية.

- تخفيف امراض الحساسية والحد من مشكلات البشرة الدهنية.

- تناقص نسبة التخمّر الذي يسبب دمامل وبثورا مستمرة، لانخفاض افرازات الامعاء للسموم اثناء الصيام.