الثلاثاء: 2006.07.18

سعد محيو

بلدة الجيّة الساحلية الجنوبية، التي يقيم فيها كاتب هذه السطور حالياً، تبعد نحو 25 كيلومتراً عن بيروت، وهي معزولة تماماً عن عمقها في صيدا وما وراءها جنوباً، وعن العاصمة وما وراءها شمالاً.

الجيّة، بتركيبتها السكانية المختلطة من المسلمين والمسيحيين، تعتبر نموذجاً للمأساة التي تعيشها العديد من بلدات وقرى ومدن لبنان. فالقصف الجوي فيها شبه متواصل ليل نهار، بسبب خزانات وقود المحطات الكهربائية فيها، من جهة، ولإشرافها على الطريق الدولي المؤدي إلى بيروت، من جهة ثانية، ولقرب شواطئها من سواحل منطقة الناقورة التي تنوي ldquo;إسرائيلrdquo; إقامة منطقتها الأمنية الجديدة فيها، من ناحية ثالثة.

بكلمات أوضح: الجيّة تكثّف معنى المنطقة المنكوبة التي تحدث عنها بالأمس رئيس الوزراء اللبناني، أمنياً ومعيشياً وسيكولوجياً. ولولا معجزة استمرار تدفق التيار الكهربائي بين الفينة والأخرى، لكانت الكارثة كاملة.

عمّ يتحدث من تبقى من ساكني هذه البلدة؟

المنطق كان يفترض أن تكون المادة الأولى لحواراتهم هي حزب الله، خاصة بعدما انتقد وزراء الخارجية العرب، ومعهم وزيرا روسيا وفرنسا وغيرهما، تفرّده في اتخاذ قرار الحرب وما أسفر عنه من مجابهات لا متكافئة (ودمار غير متكافئ) مع الدولة العبرية. لكن هذا المنطق غير موجود، حتى بالنسبة للمواطنين المسيحيين الحساسين إزاء سياسات وتوجهات أشقائهم المسلمين. كل الحديث يتمحور ويتقاطع حول سؤال يتيم: من أين يأتي ldquo;الإسرائيليونrdquo; بمثل هذا العنف الإجرامي المنفلت من أي عقال، والمتحلل من أي قانون من قوانين الحرب؟

ومن هذا السؤال تتفرع أسئلة أخرى لا تقل خطورة:

هل الدافع لهذه الوحشية استراتيجي، وهو إرهاب الخصم لردعه وإخضاعه؟ وإذا ما كان الأمر كذلك، هل يتضمن هذا الهدف حروب الإبادة، والتنظيف العرقي، والمحرقة الجوالة التي تنفذها الطائرات ldquo;الإسرائيليةrdquo;؟

أم ان دافعها سيكولوجي، حيث تستخدم الأقلية اليهودية منتهى العنف لمواجهة منتهى الخوف الذي يعتمل في دواخلها؟

أم هو ثقافي، يتجسد في تلك النصوص الدينية اليهودية (التلمود) التي تعتبر الغوييم (غير اليهود) قوائم شيطانية، أو حيوانات شرسة، يجب إما إبادتها أو ترويضها لجعلها ldquo;تتمرغ تحت أقدام شعب الله المختارrdquo;؟

من بين كل هذه التفسيرات، كان الأخير هو الأكثر شعبية بين مواطني الجيّة المحاصرين، خاصة أن ثمة بينهم من يحفظ عن ظهر قلب مؤلفات المفكر الراحل إسرائيل شاحاك التي تركز كلها على كشف الجذور الدينية للعنف ldquo;الإسرائيليrdquo;، كما تذكّر البعض ما قاله مؤخراً ماكسيم غيلان، الكاتب والصحافي والشاعر ldquo;الإسرائيليrdquo; المعروف: ldquo;في ldquo;إسرائيلrdquo; هناك مجتمع يتحكّم الجيش (خاصة هيئة الأركان) بمصائره السياسية والاقتصادية والدينية. في هذا الجيش توجد أخطر عصبة من الرجال على وجه الأرض. ليس هناك على وجه البسيطة قادة وجنرالات متطورون للغاية ويمتلكون كميات هائلة من أسلحة الدمار الشامل، كما في ldquo;إسرائيلrdquo;. إنهم متطرفون للغاية، وقوميون متعصبون للغايةrdquo;.

ويضيف: ldquo;هناك أنظمة مجنونة أخرى في العالم، لكن ليس كما النظام ldquo;الإسرائيليrdquo;. فهذا الأخير يعتبر ldquo;العالم كله ضدناrdquo;. ليس ثمة دولة أخرى كrdquo;إسرائيلrdquo; تهدّد بتدمير العالم من خلال حرب نووية، أو من خلال ارتكاب انتحار جماعي (عقدة الماسادا).

* * *

خلال إحدى جلسات الحوار التي كانت تجري بين من تبقى من أهالي الجيّة، عادت الطائرات الحربية ldquo;الإسرائيليةrdquo; لتقصف للمرة الرابعة خلال أربعة أيام محطة الطاقة الحرارية، فيما كانت طائرات أخرى تدمر الجسور التي تربط البلدة بكل من طريق صيدا بيروت وإقليم الخروب. سارع الجمع إلى الاحتماء من القصف وراء الجدران، أو على جوانب الطرق، أو تحت الطاولات، فيما سمع طفل في السابعة يتمتم وهو يحتمي بصدر والده: ldquo;بابا، بابا، عاد الوحش، عاد الغولrdquo;.