تناقصوا في إيران منذ الثورة الإسلامية ونزحوا من العراق بسبب الحرب وتركوا لبنان لأزماته المتعددة



اعداد- أحمد دياب


شاءت الاقدار ان تكون منطقة الشرق الاوسط مهبطا للديانات التوحيدية الثلاث, وقد تعايش المؤمنون بهذه الديانات جنبا الى جنب محافظين على تراثهم ومقدساتهم, ولم تخل المنطقة من اتباع لاحدى الديانات الثلاث على مر التاريخ, وان كانت هناك غلبة للاسلام مقارنة باليهودية والمسيحية, والاخيرة حافظت على وجود مهم و معتبر في المنطقة خلال الالفي عام الماضية. لكن هذه المكانة مرشحة للتغيير في الالفية الثالثة. فالوجود المسيحي في المنطقة يسير الى مزيد من التناقص الحاد , وربما التلاشي في يوم من الايام اذا استمر الوضع الحالى على ما هو عليه. وقد عقد بطاركة الشرق الكاثوليك خلال شهر ديسمبر الماضي في بلدة بزمار كسروان في لبنان مؤتمرا تركز على موضوع هجرة المسيحيين من الشرق وسبل الحد منها. وراى المؤتمرون ان هذا الموضوع هو الاهم و الاخطر الذي يقض مضاجع الكنيسة ويقلقها في الوقت الحاضر.

تركيا وايران

فالاحصاءات تظهر مثلا انه لم يعد في تركيا سوى 80 الفا من المسيحيين بنسبة 1في المئة من الاتراك, معظمهم من الارمن, بعد ان كان عددهم في حدود مليونين 15 في المئة عام 1920 , بينهم عدد كبير من اليونانيين الارثوذكس. وهؤلاء رحلوا الى اليونان في اطار عملية تبادل الجاليات بين تركيا واليونان عقب الحرب العالمية الاولى وسقوط الخلافة العثمانية 1923 , في حين رحل الارمن الى دول الغرب مباشرة او الى لبنان و الاردن ومصر ومنها الى الغرب في وقت لاحق. وقد تصاعدت هجرة الارمن الاتراك منذ صعود تيار الاسلام السياسي في تركيا منذ ثمانينات القرن الماضي, وفي الوقت الحاضر فان الارمن في تركيا يقعون بين مطرقة صعود الاسلام السياسي, و سندان تزايد المشاعر القومية بسبب مشكلة الاكراد في الجنوب الشرقي, و الخلاف بين تركيا وجمهورية ارمينيا بشان مذابح الارمن خلال الحرب العالمية الاولي والنزاع في اقليم ناغونو كره باخ بين ارمينيا واذربيجان الموالية لتركيا, فضلا عن رفض الاتحاد الاوروبي ( المسيحي ) لعضوية تركيا ( المسلمة ).

وفي ايران التي تضاعف عدد سكانها تقريبا منذ الثورة الاسلامية عام 1979, هبطت اعداد المسيحيين في البلاد بنحو300الف نسمة الى نحو 100الف فقط, كانوا يتوزعون بين طائفتين رئيسيتين هما : الارمن وكان تعدادهم نحو ربع المليون نسمة, و الاشوريون نحو 50 الف نسمة. و الارمن من الاقليات المسيحية التي استوطنت ايران منذ امد بعيد, فقد انتشرت المسيحية في ايران في عصر الاخمينيين(250 ق.م/226 م) وكان للدين المسيحي اتباع منذ القرن الاول الميلادي فيما بين النهرين وغرب ايران, وزاد عدد المسيحيين في ايران في العصر الساساني ( 224 / 652 م ) نتيجة الحروب التي دارت بين الفرس والرومان, ونتيجة لعمليات الاسر الجماعي وتمركز الاسرى المسيحيين في مناطق معينة, كما ان انتشار المسيحية في ارمينيا كان من اسباب انتشارها في ايران, وعندما طرد النسطوريون من روما في القرن الخامس الميلادي استوطنوا ما بين النهرين وايران, وانشأوا مدارس خاصة بالمسيحيين في عهد كسرى انوشروان ( 531 / 579 م ) واشتهرت هذه المدارس بتدريس العلوم الطبية.

وبعد الفتح الاسلامي لايران, وبعد انتشار الاسلام فيها, ساعد المسيحيون العرب في ادارة شؤون ايران, ولم يمنع الاسلام قيام علاقات اجتماعية واقتصادية بين المسلمين واهل الكتاب سواء كانوا مسيحيين او يهودا. ومن عوامل زيادة عدد المسيحيين في ايران تغير الاوضاع السياسية في النصف الاول من القرن التاسع عشر في روسيا وتركيا, فهاجر عدد كبير من مسيحيي هاتين الدولتين الى ايران بسبب سوء المعاملة, خصوصا تجاه الارمن. فهم يختلفون في المذهب مع مسيحيي روسيا الارثوذكس, اذ يعتنق الارمن المذهب الجريجوري التابع لكنيسة روما, و يختلفون في الدين عن الاتراك المسلمين, فضلا عن تصاعد مطالبهم بالاستقلال عن الدولة العثمانية.

وينتشر الارمن في مدن : اصفهان وطهران وتبريز ورضائية ورشت, ولهم عضوان في مجلس الشورى الاسلامي, احدهما عن ارمن طهران والشمال, والاخر عن ارمن اصفهان وجنوب ايران. اما الاشوريون فهم من اقدم الطوائف التي استوطنت ايران, فقد اغار شابور الثاني الساساني ( 310 / 379 م ) على مدينة الرها التي كانت تحت سيطرة الرومان, واحتلها وجلب عددا كبيرا من الاشوريين الى ايران, وحظي الاشوريون بحريات واسعة في عهد يزدجرد الثاني ( 399 / 420 ) و في عصر الشاه عباس الصفوي في القرن السادس عشرالميلادي الذي وطد علاقاته بالقوي الاوربية المسيحية, في اطار صراعه مع الدولة العثمانية (السنية), وتعاطف مع جميع المسيحيين في ايران, وكان يشاركهم مناسباتهم الدينية.

واختار فتح عله شاه القاجاري في القرن السابع عشر الميلادي فتاة اشورية زوجة له, و في عهده قدمت الى ايران عدة ارساليات مسيحية غربية, مما كان سببا في تقسيم الاشوريين الى اربعة مذاهب لكل مذهب كنيسة مستقلة. ويتركز الاشوريون في طهران وارومية وعدة مدن اخري, ويمثلهم في مجلس الشورى الاسلامي عضو واحد. و قد تمتع المسيحيون بصفة عامة بحريات واسعة سياسيا واقتصاديا في الاسرة البهلوية, خصوصا في عهد الشاه الراحل محمد رضا بهلوي الذي اطاحت به ثورة الخميني لكن توجهات الثورة الداخلية بالاتجاه نحو اسلمة المجتمع الايراني, وتوجهاتها الخارجية, سواء بحرب الثماني سنوات مع العراق او صراعها مع الغرب, خصوصا مع الولايات المتحدة, دفعت اكثر من ثلثي مسيحيي ايران للرحيل الى الخارج.

المشرق العربي

اما في المشرق العربي فان الصورة اوضح. ففي منتصف الخمسينات الماضية شكل المسيحيون نسبة تتراوح بين 15و20 في المئة من جملة سكان عدة دول عربية مشرقية, وهم الان لا يشكلون اكثر من 10 في المئة. ففي سورية كانت نسبة المسيحيين تقارب ثلث عدد السكان في مطلع القرن العشرين , اما الان فنسبتهم هي اقل من 10 في المئة. وفي لبنان كان المسيحيون يشكلون في عام 1932 نسبة 55 في المئة من السكان, اما الان فهم اقل من 30 في المئة. وما يزيد المشكلة تفاقما ان لبنان لم يعد موئلا او ملاذا لمسيحيي المشرق العربي وبشكل يعوض هجرة مسيحيي لبنان كما كان سابقا. فمنذ الخمسينات والستينات الماضية صار لبنان مقصدا للمسيحيين العرب القادمين من سوريا والعراق ومصر وفلسطين. والان لم يعد لبنان هذا المقصد او الملاذ بالنسبة لمسيحيي المشرق العربي منذ تحوله الى احدى النقاط الساخنة في منطقة الشرق الاوسط بعد الحرب الاهلية اللبنانية التي استمرت 15 عاما منذ منتصف السبعينات وحتي نهاية الثمانينات الماضية.

ومنذ الغزو الاسرائيلي عام 1982 صار لبنان الجبهة العربية الوحيدة الساخنة في الصراع العربي - الاسرائيلي وصولا الى عدوان صيف العام الماضي. اي ان لبنان يعيش منذ ثلاثين عاما في حروب داخلية وخارجية. الامر الذي دفع الكثيرين الى الهجرة نحو الخارج : المسلمون نحو الخليج والمسيحيون نحو الغرب. لقد لعب لبنان دور الملاذ والموطن لمسيحيي المشرق العربي وتركيا عندما كان يتمتع بالاستقرار السياسي والامني والرفاهية الاقتصادية , مقارنة بغيره, او جيرانه. اما الان وفي ظل ازمته السياسية والاقتصادية الطاحنة, خصوصا منذ اغتيال رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري في فبراير 2005 , فان لبنان صار, بالنسبة لمسيحيي المشرق مجرد نقطة عبور quot; ترانزيت quot; الى المنافي البعيدة, خصوصا نحو الغرب. هذه المستجدات تفسد خططا اميركية واسرائيلية كانت تسعى لتوطين نحو ربع مليون مسيحي عراقي في لبنان مقابل قبوله بتوطين نحو 400 الف لاجئ فلسطيني موجودين في لبنان, في اطار المشروعات المطروحة لحل مشكلة اللاجئين الفلسطينيين.

اما القدس فلم يعد فيها سوى 2 في المئة من المسيحيين بعد ان كانت نسبتهم 53 في المئة عام 1922 , وحتى مدينتى بيت لحم والناصرة , وهما اكثر المدن ارتباطا بالمسيحية على الارض, وتمتعتا باغلبية سكانية مسيحية على مدى الفي عام تقريبا. لم يعد الامر كذلك الان. فبيت لحم لم يعد فيها سوي 12 في المئة من المسيحيين بعد ان كانت نسبتهم بها 85 في المئة عام 1948. وكان المسيحيون يشكلون اجمالا نحو20 في المئة من سكان فلسطين انذاك. لكن نسبتهم الان لاتتجاوز 10 في المئة.

وفي مصر, ولاول مرة منذ خمسينات القرن العشرين , يغادرالمسيحيون الاقباط بلدهم باعداد كبيرة, وهم لا يتجاوزون الان- وفقا لتقديرات غير رسمية- نسبة 6 في المئة من السكان البالغ عددهم نحو 72 مليون نسمة بحسب تعداد 2006. وفي العراق , وطبقا لتعداد السكان الذي اجري عام 1977 كان عدد المسيحيين في العراق نحو مليون و 684 الف نسمة, هبطت في اخر احصاء بالعراق عام 1987 الى مليون وربع المليون نسمة, بنسبة 5 في المئة من الشعب العراقي, وعشية الغزو الاميركي عام 2003 بلغ عدد المسيحيين العراقيين نحو700 الف شخص, اي نحو 3 في المئة من جملة عدد السكان البالغ عددهم نحو 25 مليون نسمة. وبعد مرور نحو اربع سنوات على الاحتلال يقدر عدد المسيحيين العراقيين الذين غادروا البلاد بنحو 350 الف نسمة.

اسباب التناقص و الرحيل

وفي حال استمرارالتناقص بهذه المعدلات , فليس هناك شك في انه خلال عقد او عقدين من الزمن, سيفقد المسيحيون الشرق اوسطيين اي اهمية حيوية او تاثير سياسي. هذا التناقص الشديد يعزى في جانب اول الى انخفاض معدل المواليد بين الاقليات المسيحية في الشرق الاوسط بسبب ارتفاع مستواها الاجتماعي والاقتصادي. وفي جانب ثان الى فشل مشاريع التنمية والنهضة في معظم دول المنطقة, وشعور المسيحيين وفئات اجتماعية اخرى بعدم جدوى البقاء في هذه البقاع بسبب تردي الاوضاع الاقتصادية والسياسية فيها.

اما الجانب الثالث و الاكثر اهمية فهو ان اقليم الشرق الاوسط يشكل بيئة طاردة بسبب الصراعات والحروب التي يشهدها على مدى نصف قرن تقريبا, بداية من تاسيس اسرائيل عام 1948, مرورا بصعود تيار القومية العربية في الخمسينات والستينات الماضية التي اعتبر المسيحيون العرب ان خطابها اقرب الى الاسلام , ثم صعود التيار الاسلامي نفسه عقب هزيمة 1967 وقيام الثورة الايرانية عام 1979 , واشتعال الحرب العراقية - الايرانية التي استمرت ثماني سنوات, ثم الحصار الاقتصادي للعراق عقب غزوه الكويت عام 1990 , وانتهاء بالغزو الاميركي لافغانستان اواخر عام 2001, و العراق عام ,2003, في اطار ما تسميه واشنطن الحرب العالمية على الارهاب عقب احداث 11 سبتمبر 2001 , تلك الحرب التي اججت العداء التاريخي والايديولوجي بين الاسلام والغرب, واطلقت موجة من التطرف والارهاب لا تقتصر تداعياتها على الاقليات المسيحية فقط.

في المقابل يشكل الغرب بيئة اغراء وجاذبية للمهاجرين عموما بسبب تقدمه الاقتصادي وتوافر الحريات الدينية والمدنية. وفي هذا الشان يفضل الغرب استقدام واستقطاب مهاجرين ينتمون الى المسيحية بطوائفها المختلفة , خصوصا من فئة الشباب, كي يسهموا في نموه الاقتصادي ويسدوا العجز في المواليد الذي يعاني منه الغرب الراسمالي. فنسبة هجرة الشباب العرب المسلمين الذين يسافرون للدراسة في الغرب تقل عن 50 في المئة , في حين تزيد على 70 في المئة بين الشباب العرب المسيحيين. هذه المعادلة الصعبة بين شرق اوسط طارد وغرب جاذب , تجعل الهجرة طموحا لكثيرين, ومسؤولية الغرب عن انتاج هذه المعادلة مؤكدة , فهو الذي يشن حروبه وعدوانه على دول الشرق الاوسط بالاصالة عن نفسه كما في حربي العراق 1991 و2003 , والاخيرة ارغمت اكثر من 2 مليون عراقي على اللجوء للدول المجاورة والبعيدة , او بالوكالة عبر اسرائيل كما في حربى 1948و 1967,وحروب 1982 ضد لبنان او حرب 2006 التي دفعت نحو ربع المليون لبناني الى الهجرة خارج بلدهم كما يذكر البطريرك الماروني نصرالله صفير, وبسبب تلك الحرب وتداعياتها ما يزال نحو 60 في المئة من الشباب اللبناني يحلمون بالهجرة الى الخارج ( وهي ترتفع بين الشباب المسيحيين الى اكثر من 62 في المئة ), و تشهد كل سفارات الدول المعتمدة في لبنان ضغطا شديدا على طلب الهجرة, وبصورة خاصة من جيل الشباب. ومنذ العدوان الاسرائيلي على لبنان في يوليو 2006 حتى الان ققزت ارقام المهاجرين من لبنان الى الخارج من جيل الشباب بما يوازي 8 الى 10 في المئة من مجموع السكان. وبحسب احصاءات الدوائر المختصة فان اكثر من 250 الف شاب لبناني غادروا البلاد ومعظمهم من اصحاب الاختصاصات العالية في غضون الاشهر العشر الماضية, بينهم نسبة عالية من الشباب المسيحيين. من جانب اخر فان, سياسات الطرد والترحيل او الحصار والتجويع التي تنتهجها اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني, تلك السياسات التي اجبرت مئات الالاف من الفلسطينيين- وبينهم عدد كبيرمن المسيحيين- على الهجرة الى الخارج , منذ النكبة عام 1948 وحتى الان. و بسبب هذه السياسات لا يزال نحو 30 في المئة من الشبان الفلسطينيين يحلمون بالهجرة الى الخارج, خصوصا الى دول الغرب.

تداعيات خطيرة


ان خلو الشرق الاوسط من مسيحييه سيفقد المنطقة احد العناصر الرئيسية في تقدمها االحضاري, وينسف احد الجسور المهمة بين المنطقة والغرب, في وقت هما احوج ما يكونان فيه الى مد الجسور وليس قطعها او التفريط في احداها. و الاهم من كل ذلك ان الشرق الاوسط سيصبح منطقة موحشة تتصارعها اصوليتان: يهودية واسلامية, كل منهما تعتبر هذا الصراع مباراة صفرية, لكن المشكلة ان اسرائيل ستحاول استغلال هذا الصراع في تجديد دورها quot; الوظيفي quot; في المنطقة باعتبارها قلعة متقدمة في مواجهة الاسلام من اجل استمرار دعم الغرب لها. وكان مسؤول القدس الراحل فيصل الحسيني اول من حذر من هذا الامر. فقبيل وفاته زار فرنسا لمناشدة اسقف باريس في حينه, المونسنيور لوستيجيه والرئيس جاك شيراك, التدخل وحض مسيحيي القدس والاراضي الفلسطينية والدول العربية المختلفة على عدم مغادرة بلدانهم, عملا بسياسة متعمدة لافراغ فلسطين والعراق وسورية ولبنان من المسيحيين. وقال الحسينيquot; ان اسرائيل تقف وراء هذه السياسة التي تهدف من ورائها الى افراغ المنطقة من العناصر المعتدلة لتبقي اسرائيل منفردة مع الاسلام المتشدد, مما يسهل عليها قمع التطرف الديني والحصول على دعم غربي مقابل ذلكquot;.