د. عصام نعمان


ليس مبالغة القول إن جورج بوش في محنة. محنته من صنعه بالدرجة الأولى. فهو مهجوس بمخاطر تكتنف انسحاباً مبكراً من العراق. يخشى أن يؤدي ذلك، بشكلٍ أو بآخر، إلى طرد أمريكا من المنطقة. ويعزّ عليه، من جهة أخرى، ان يؤدي تأخير الانسحاب الى ثورة في الكونغرس وبين الناس، يلتقي فيها ldquo;أصدقاؤهrdquo; الجمهوريون مع أخصامه الديمقراطيين على محاربته وصولا، ربما، إلى مباشرة إجراءات لإقصائه من الرئاسة قبل انتهاء ولايته!

إذا كان بوش لا يجهر بدقائق محنته وأبعادها، فإن مساعديه يجهرون. ها هو ذا ريان كروكر، سفيره في بغداد، يحذّر بأقوى المشاعر عن مخاوفه ورئيسه. يقول لصحيفة ldquo;نيويورك تايمزrdquo;، ldquo;إن الانسحاب المبكر يؤدي إلى زيادة حادة في العنف وضحاياه بل إلى مذابح تودي بآلاف المدنيينrdquo;. يجزم بأن انسحاب القوات الأمريكية يؤدي إلى ldquo;الانهيار الكاملrdquo; لقوات الأمن العراقية البالغ تعدادها 350 ألفاً. ينذر قائلاً: ldquo;إن انعدام القدرة على التخيّل جعل من المستحيل توقع العنف الذي أطبق على لبنان عندما انزلق إلى الحرب الأهلية في الثمانينات. إنني على يقين من ان ما سيحدث هنا يفوق أي تخيّلrdquo;!

ما الأمر الذي إن حدث ldquo;يفوق أي تخيلrdquo;؟

إنه، على ما يبدو، احتمال طرد أمريكا من المنطقة. ذلك يمكن استنتاجه من صدى كلمات كروكر النذير لدى السناتور الجمهوري النافذ جون وارنر. فقد حذّر الجميع فور خروجه من اجتماع في البيت الأبيض ضمّه ومستشار بوش للأمن القومي ستيفن هادلي بقوله: ldquo;هذه مرحلة في تاريخنا تختلف عن أي مرحلة أخرى شهدتهاrdquo;.

أجل، هي كذلك بدليل ان تمرد الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس، من بين أمور أخرى خطيرة، أرغم بوش على مطالبة هادلي بقطع إجازة عائلية قصيرة والعودة الى البيت الأبيض. كما أرغم وزير الدفاع روبرت غيتس على تأجيل زيارة، كانت مقررة هذا الأسبوع لبعض دول أمريكا اللاتينية. كل ذلك لتمكين المسؤولين الأمريكيين من المشاركة في الاجتماعات المكثفة للتعامل مع التحديات البازغة وسط أجواء متشائمة في البيت الأبيض، وصفها احد الصحافيين بأنها وصلت إلى مستوى ldquo;الرعبrdquo;!

ما سبب الرعب؟

يُستخلص من تحقيقات الصحف الأمريكية الرئيسة وتقارير مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية أن خيارات بوش تنحسر باستمرار، وأنه اتخذ، بسبب ذلك، قراراً مبدئياً بمباشرة الانسحاب من العراق العام المقبل. غير أن المعضلة المعقدة التي تواجه إدارة بوش هي ان خيار سحب القوات تدريجياً قد يصبح مستحيلاً، عملياً وميدانياً، إذا ما استمرت أعمال العنف بمستواها الراهن، او ازدادت كما يتوقع المسؤولون العسكريون والسياسيون.

هذا هو الوضع الذي، إن حدث، ldquo;يفوق (بنتائجه) أي تخيّلrdquo;، كما حذّر كروكر من بغداد. وهل في وسع احد اليوم أن يتخيّل المخاطر المروعة التي ستواجه إدارة بوش وقيادته العسكرية العليا، إذا ما وجدت القوات الأمريكية في العراق نفسها عاجزة عن الانسحاب لأحد سببين أو لكليهما معاً: انهيار قوات الأمن العراقية من شرطة وجيش وانقلاب وحداتها على الأمريكيين ومباشرة مقاتلتهم الى جانب قوى المقاومة، واستشراء الثورة في كل أنحاء البلاد على نحوٍ يحول أو، على الأقل، يعقّد عملية سحب القوات الأمريكية المطوّقة.

ثم لنتخيّل، على طريقة كروكر، ماذا سيحدث على مستوى المنطقة إذا ما طُوقت القوات الأمريكية في العراق، واستنزفت بشدة او لم تتمكن من الانسحاب إلاّ بشكل مهين. من الممكن تخيّل النتائج الآتية:

* سقوط مدّوٍ لهيبة الولايات المتحدة، سياسياً وعسكرياً، في المنطقة.

* صعود حادّ في معنويات حركات الإسلام الجهادي في العالم، وتوسيع لدوائر اشتباكها الميداني مع أعدائها المحليين، لاسيما في فلسطين ولبنان وأفغانستان والصومال، وربما في باكستان أيضاً.

* تراجع خيار استخدام القوة العسكرية الأمريكية ضد إيران، وrdquo;الإسرائيليةrdquo; ضد سوريا، وازدياد نفوذ دعاة خيار العقوبات الاقتصادية والمصرفية في ادارة بوش والكونغرس وفي دوائر حلف الناتو.

* انحسار مراهنة عرب الاعتدال على السياسة الأمريكية في المنطقة وجنوح بعضهم الى معالجة قضايا الأمن القومي، والتنمية في إطار إسلامي استقلالي، وبالانفتاح على أوروبا وروسيا والصين واليابان.

* تنامي الشعور لدى العسكرية العربية بأن لها دوراً استراتيجياً، بما هي العمود الفقري للدولة والبلاد، في مواجهة قوى التفكيك والتقسيم والتفتيت والفوضى، وانها البديل المنطقي للشبكات الحاكمة الفاسدة والمترهلة والعاجزة عن صون وحدة الدولة والبلاد، والمهددة بالسقوط أمام تحدي قوى الإسلام السلفي المتطرف.

بوش لا يقوى، بالتأكيد، على النظر إلى هذا المشهد الخطير ولو في مخيلته المهزوزة. انه يدرك، شأن السناتور وارنر، ldquo;أن هذه مرحلة في تاريخنا تختلف عن أي مرحلة أخرى شهدتهاrdquo;، ولذلك بات مقتنعاً بأن عليه اتخاذ قرار الانسحاب من العراق بالسرعة الممكنة. لكن ما يستعصي على بوش معرفته أو، ربما، مواجهة آثاره هو توقيت الانسحاب على نحوٍ لا يؤدي الى أمرين كلاهما مرّ: انسحاب مبكر يؤدي إلى انهيار قوات الأمن العراقية وانضمام ألوية منها إلى المقاومة المتصاعدة، أو انسحاب متأخر تصبح معه القوات الأمريكية عاجزة عن الانسحاب، وسط ثورة عارمة تشمل مناطق البلاد كلها، أو قادرة عليه إنما على نحوٍ يعرضها لمهانة وإذلالٍ شديدين.

في الحالين، يبدو احتمال طرد أمريكا من المنطقة مشهداً شديد الحضور في مخيلة بوش وهاجساً مقلقاً لمعظم فريقه الحاكم.