فارس الوقيان

ما هي أفضل وسيلة للانغماس في الفساد في الكويت من دون أن يكتشف أحد أي أثر لك فيه؟ هي أن تقف في الصفوف الأولى وتظهر في وسائل الاتصال الجماهيري كافة، رافعا شعار مكافحة الفساد ليل ونهار، وإن لزم الأمر المشاركة في الندوات والمؤتمرات المخصصة لعلاجه!. ما هي أفضل طريقة مخاتلة لإفقار الكويتيين والدوس في بطون ذوي الدخل المحدود؟ هي أن توهمهم بالفعل بأنك قمت بجهد عملاق لزيادة رواتبهم من دون ملاحظة أنك تقوم باختلاسهم عن طريق زيادة جنونية لأسعار السلع والخدمات! ما هي أفضل خطة جهنمية للاستمرار في سياسة الإفقار والإفساد بنجاح لا مثيل له؟ هي أن تنشئ لجنة لإزالة التعديات حتى ينشغل أولئك البسطاء بأسوار بيوتهم وحدائقهم ودواوينهم، من دون أن يكون عندهم الجهد والوقت الكافيين للذهاب بعيدا في أفكارهم وإبداعاتهم وأحلامهم الشريرة لتحقيق وطن نظيف من الفساد ومجتمع مستقر وقضاء عادل وفرص وحقوق متساوية للجميع!

مسكينة هي الكويت، ينشغل العالم كله ومحيطها الإقليمي من حولها، بمسائل وطنية وكونية عملاقة متعلقة بالثورة التكنولوجية الهائلة، والتوحد الإقليمي والاقتصادي بين البلدان، قيم حقوق الإنسان ومنظمات المجتمع المدني والتنمية المستدامة والبيئة والبحث العلمي، في حين تتقهقر الاهتمامات الكويتية لتتلخص في مشاريعها ونقاشاتها، حول فنون الاصطياد في الماء العكر، وتصفية الحسابات الطبقية والفئوية، ففي كل قرار أو تصريح نقرأه لمسؤولين رسميين كبار ونواب برلمانيين ومعنيين بالشأن الوطني، علينا أن نبذل جهدا معرفيا ضخما حتى لا نتوقف عند حدود الملفوظات والمفردات، بل نتجاوزها، لقراءة ما بين السطور حتى نعرف أن ذلك التصريح أو تلك الدرر المنشورة تلتف حولها دوافع غير وطنية خفية. وعلينا أن نرجع للسيرة الذاتية لذلك الشخص حتى نعرف أن من بين أهدافه السرية التي يتكتم عليها، الحصول على منصب كبير، أو عقد صفقة مالية مشبوهة، أو ابتزاز شخصية كبرى لتحقيق مآرب ومصالح خاصة على حساب مصالح الوطن العليا.

الذات المفكرة في كويت اليوم، لا تحتاج في الواقع لعقل واحد، بل تحتاج الى عقلين أو ثلاثة لتفسير ما يجري من أحداث في البلد، فجل المعلومات الفعلية الخاصة لا تستمد من وسائل الإعلام والأخبار أو استطلاعات الرأي، بل من أشخاص فاعلين في اللعبة السياسية والمالية، ويفضل أن يكونوا متخاصمين حتى يكشفوا لك تفاصيل المواقف والحقائق العارية، لذلك فهل يريد البعض حقيقة إقناعنا بأنه لم يتبق في الكويت من ملامح وأركان للفساد وتعديات على أملاك الدولة سوى تلك التعديات التي يقوم بها المواطنون البسطاء مثل إقامة سور حول حديقة منزله، أو ديوانية قابعة فيها؟ وهل لتلك التعديات المنزلية الخاصة للمواطنين علاقة مباشرة، أو غير مباشرة بالتصنيف المفزع للكويت في مستوى الشفافية والفساد؟ لماذا لا تشكل مسألة الأسوار والديوانيات والحدائق مسألة رأي عام شعبي خليجي وعربي وعالم ثالث مثلما هو حاصل في الكويت؟! إن ما يحدث الآن في الكويت، علينا هكذا قولها بصراحة غير هيابين، عبارة عن سياسة مبرمجة لإلهاء الكويتيين بإشغالهم في قضايا وتفاصيل يومية هامشية من أجل صرف أنظارهم عن القضايا الوطنية الكبرى والمصيرية، فما هو معروف، أن تصنيفات الكويت بالمنظمات والاتحادات الدولية عن الرياضة، التعليم، الاقتصاد والاستثمارات، الفساد، الصحة العامة، العمران، البحث العلمي، حوادث الطرق، تشهد أفظع انحدارات وتراجعات لها قياسا بعقود زمنية سابقة، وفي ظل طرق معالجة هشة وسياسات عاجزة وبرلمان مشتت، من الطبيعي أن تكون الحلقات الأضعف في الدولة والمجتمع (ذوو الدخل المحدود، البدون، الوافدون) من أكبر الجماعات المستهدفة للبرهنة عن وجود وحضور الدولة في الشأن العام، في الوقت الذي لا يقوى فيه أحد على مواجهة الحلقات الاجتماعية الأقوى والأكثر نفوذا. وهذا ربما يفسر بطريقة عقلانية، المناقشات الحادة التي شهدتها الكويت حول ملفات التجنيس، قضية البدون، استهداف ذوي الدخل المحدود في منازلهم عن طريق لجنة التعديات وغيرها من الملفات التي ليس لها علاقة بالاختلالات الفعلية التي تواجهها الدولة.

الطامة الكبرى في الكويت، أنه لا أحد يدرك أن هذا الأسلوب السطحي في معالجة الأمور ومواجهة القضايا العملاقة في الدولة، قد أصاب غالبية الكويتيين بالتذمر والسخط والاشمئزاز، لأنه يتعامل مع الناس على أنهم سذج من الممكن أن تنطلي عليهم مختلف الألاعيب والمسرحيات الهزلية، والمحزن أكثر أنه لا أحد يدرك أن هذا الأسلوب الذي يستفز من يحبون وطنهم عن صدق، قد ترك تبعات وآثارا نفسانية ومجتمعية واقتصادية متراكمة، تسير باتجاه تفكيك المجتمع وفي سبيلها لنزع خصوصية المواطنة والإيمان بقيم المساواة والعدالة المجتمعية لدى الناس، وفوق ذلك كله، لا أحد يدرك أن قضايانا وملفاتنا الهامشية قيد التداول والنقاش الراهن، قد أصبحت محل عطف وتهكم الكثير من المراقبين في الدول المجاورة، لأنه ليس هناك عقل حر ومستنير، يصدق بأن تترك الحكومة والبرلمان والمعنيون بالشأن الوطني، كل قضايا العالم الحيوية في الاقتصاد والتكنولوجيا والتعليم وحقوق الإنسان المتعلقة بنهضة الدولة ولا تشكل لها لجان فاعلة لإدارة أزماتها المتفاقمة، وتنجح فقط الجهود الخاصة بإقلاق وإرباك المواطن البسيط في بيئته النفسانية والأسرية والسكنية، وأن تفشل جهود المنافسة الحضارية والمدنية للكويت مع العالم المتقدم، وتنجح فقط جهود الجرافات والبلدوزرات لهتك حرمات الناس وسعادتهم، في حين أن الدولة هي اختراع بشري للإسهام في رفاهية المواطنين!!