هاني المعلم

هناك قصص وأحداث وحكم وأمثال وكتب انغرست ذاكرتها في أذهاننا وأسهمت في تشكيل سلوكياتنا ومواقنا من أنفسنا والآخرين وغاصت وغرقت في أعماقنا ولكنها تعود للصعود والنزول بين الفينة والأخرى شأنها شأن تيارات الحياة وتقلبات الأزمان إما أمواجاً هوجاء صاخبة عاتية أو أخرى هادئة رقيقة تنساب وتنبسط ضاحكة على شواطئ تصافحها وتهنئها بسلامة الوصول.
لا أنسى ما قرأته يوما في أحد كتب الشيخ العالم الجليل محمد الغزالي رحمه الله وهو كعادته يربي على المعاني الرفيعة والقيم السامقة منتهجاً نهجاً قرآنياً واضح المعالم محذراً من الذين يخوضون في الدين بدون ذكاء عقل وسلامة ذوق، ذكر الشيخ حديث أحد العلماء لابنه ودعوته إياه لتأمل الجهد المضني والتعب الذي تبذله اليرقة الصغيرة في سبيل خروجها من شرنقتها لتتحرر وتصبح فراشة جميلة تطير بحرية في كل مكان، وبعد أن تأمل اقترح عليه أن يقوم بعمل يخفف معاناة الفراشة، فما كان من الابن إلا أن أخذ مقصاًً وأعمله في الشرنقة، فتحررت الفراشة سريعاً لكنها خرجت ناقصة النمو، لم تتمكن من تحريك أجنحتها بشكل جيد، فما لبثت إلا أن سقطت وعجزت عن الطيران مرة أخرى. وبعد تأمل أيضاً قال العالم: يا بني إن جهد اليرقة وسعيها للخروج ينضجها ويخرج السم من جسدها. وإذا لم تجهد فشلت في الطيران. صمت قليلاً ثم أردف: إن الإنسان الذي لا يجهد في سبيل ما يريد، ويأخذ كل ما يصبو إليه بدون أي سعي دؤوب منه يموت فيه شيء جليل الخطر!
إنه إعلاء لأمر العمل الدؤوب المخلص في شتى مجالات الحياة ليتحقق في الإنسان معنى الإنسان الباذل المعطاء الخيِر، ولتُبنى الحياة وتعمر الأرض، ولكم أن تتأملوا عدد المرات التي ذُكر فيها العمل الصالح في القرآن الكريم، ومفهوم هذا العمل الذي يشمل كل مجالات الحياة ودقائقها، المعلم وجهده في التعليم والتطوير والبناء، الطبيب وسعيه في العلم والتعلم والبحث والمداواة، المهندس، الإداري، التاجر، وحتى الرسام والفنان. إن هذا المفهوم للعمل الصالح المهم والخطير يُغَيب عند البعض لينحصر ظلماً فقط في الصلاة والصوم والصدقة. إن الحياة كلها نهر متدفق من العطاء والعمل الصالح الذي لا ينتهي ولا ينضب ولا تنضب روافده ولكن همم الناس هي التي تتعب وتسأم وتتحجر فلا تنظر إلا إلى قطرات وتنسى الهدير!

تأملوا حض القرآن على تعميق معاني التأمل المتأني الدقيق الرقيق quot;انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعهquot; النظر لتمتلئ العين ومن خلفها النفس بحب الجمال والأنس برونق اللون وبهاء الصنع ودقة التركيب وتعدد الأشكال والأنواع، وإلى الذين يهندسون الحدائق quot;جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاًquot; ثم يقول: quot;وفجرنا خلالهما نهراًquot;. إن نفساً تتربى على الجمال وعشقه لا تصدر من الأقوال إلا الجميل البناء ولا من الأفعال إلا الكامل المتقن، تمضي سراعاً في ميدان الحياة تنثر النور في كل مكان، وتدمن الإنتاج والإبداع، حتى ولو قامت الساعة فهي لا تتوقف حتى تنهي عملها على أتم وأكمل وأجمل صورة! ولا عجب إذاً أن تصل التربية القرآنية الحقة بالأفراد والمجتمعات إلى قمة العلم والحضارة، quot;قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيهاquot; اختلط عليها الأمر لدقة الصنع وروعة وجمال التركيب فحسبت أنها تخوض في الماء quot;قال إنه صرح ممرد من قواريرquot; زجاج شفاف دقيق، وكان قد قرر قبل quot;وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمينquot;.
ولا أنسى أيضاً تعقيباً للشيخ الغزالي رحمه الله بعد أن أورد خبر البغيِ التي شكر الله لها صنيعها أن سقت كلباً يلهث فغفر لها! فإذا كانت الرحمة بالبهائم تغفر ذنوب البغايا، فإن الرحمة بالبشر تفعل العجائب! ووقفت كثيراً عند مقولة لابن عباس - رضي الله عنهما - فيها كثير من التأصيل والتطبيق للبعد الإنساني المتجذر في التربية البنوية الكريمة، حين يذكر أنه يفهم تأويل آية في كتاب الله فيتمنى أن الناس كلهم يفهمون هذا الفهم! هذه نفس لا تهيم بالعلم وتعشقه عشقاً وحسب بل تأصل حب الخير فيها وتدفق كالسيل يريد أن يصل إلى كل مكان! ألم يقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين مرت به جنازة، فقيل له إنها ليهودي، فقال المصطفى: أليست نفسا؟ أدب واحترام وتقدير لإنسانية الإنسان مهما كانت ملته واعتقاده، ولعمري ما أَدرى هذا الميت باحترام وتقدير الأحياء له، فليقف من يقف وليجلس من يجلس! ولكن هناك معنى آخر أعمق وأجل وأسمى، فبخلاف مراقبة الله، هناك تحقيق وتثبيت لمعنى الإنسان في النفس حتى لا يموت ذلك الشيء الذي إن ذهب ختم على تلك النفس بالجلافة والغلظة وسوء الأدب! وإنه لدرس للناس - عامة - كلهم في الرقي في التعامل، وللأطباء خاصة في التعامل مع المريض كإنسان - مهما اختلف لونه وشكله، ألحظ بعض الزملاء يشمئز من مريض لا لشيء إلا لأنه من جنسية معينة أو يهين آخر لأنه لم يفهم لغته وحديثه، أو يحقر من شأن آخر ابتلي بأحد المنكرات فأثرت على صحته، وما يدريه؟ فلعل هذا الذي يحقر أقرب عند الله وأعلى مقاماً منه.
إن تعميق وتجذير قواعد الإنسانية في الأنفس والمجتمعات نهج دائم مطرد في أصول ثقافتنا ومعالم حضارتنا، ولا أدري كيف وصلنا إلى هذا الدرك من الانحطاط في إنسانية الإنسان! إن علينا أن نخلخل كثيراً مما نظنه ثابتاً متأصلاً في تربيتنا وأفهامنا لنرتقي درجات في سلم الإنسانية!