محمد السمّاك

في عام 1958 كان لبنان، كالعادة، منقسماً على نفسه حول قضية رئاسة الجمهورية. كان هناك فريق يعمل على التجديد للرئيس الراحل كميل شمعون وكان هناك فريق آخر يعارض التجديد له بكل الوسائل والسبل.
كذلك كان العالم العربي، وكالعادة ايضاً، منقسماً على نفسه حول قضية العلاقات مع الغرب. كان هناك فريق عربي يؤيد الانخراط في الأحلاف الاقليمية المرتبطة بشكل أو بآخر بحلف شمال الأطلسي، وكان هناك فريق عربي آخر يعارض هذا التوجه.
تمحور التنافس السوفياتي shy; الغربي، والانقسام العربي ـ العربي، كالعادة كذلك، في لبنان الذي تحوّل الى مسرح مفتوح لهذا التنافس سرعان ما انفجر أمنياً على نطاق واسع.
وفجأة وقع الانقلاب العسكري في العراق الذي أطاح بالعائلة المالكة وحكومتها برئاسة نوري السعيد التي كانت مؤيدة للغرب وللتحالف معه. وكان طبيعياً ان يخشى الغرب على سقوط حلفائه الآخرين في العالم العربي بما في ذلك لبنان. وهي الخشية التي أدّت الى ارسال قوات عسكرية بريطانية الى الأردن، والى إنزال قوات البحرية الأميركية ـ المارينز ـ في لبنان.
برّرت الولايات المتحدة ارسال قوات عسكرية من الاسطول السادس الى لبنان بأنه جاء استجابة الى طلب رئيس الدولة كميل شمعون وحكومته التي كان يترأسها سامي الصلح. ولكن لم يتأكد حتى اليوم ما اذا كان ذلك صحيحاً. فالقوات أُرسلت الى لبنان ثم جرت عملية تبريرها وتسويقها دستورياً.
في ذلك الوقت كان على رأس الجيش اللبناني رجل حكيم بعيد النظر، هو اللواء فؤاد شهاب. وجد اللواء شهاب ـ وهو مؤسِّس الجيش اللبناني ـ ان التصدي للقوات الاميركية قد يؤدي الى تدمير لبنان، ذلك ان ميزان القوى بين الجيش والأسطول الاميركي السادس هو في مصلحة القوات الاميركية بنسب عالية جداً، وبالتالي فان نتيجة التصدي ستكون تدمير لبنان والجيش. ووجد اللواء شهاب ايضاً ان عدم التصدي للقوات الاميركية هو شكل من أشكال الاستسلام وقبول الأمر الواقع، الأمر الذي يسيء الى المعنويات الوطنية والى الجيش نفسه.
قكان قراره باطلاق quot;رصاصة الشرفquot; على القوات الاميركية التي نزلت في شواطئ بيروت من الأوزاعي حتى الرملة البيضاء. ولعل الملازم ـ أصبح جنرالاً فيما بعد shy; سامي الخطيب هو الذي كُلّف بإطلاق تلك الرصاصة.
لم تمضِ أشهر معدودات حتى استقرّ الوضع الاقليمي ـ الدولي. وتكرس ذلك في توافق اميركي ـ مصري على انتخاب اللواء شهاب نفسه رئيساً للجمهورية.. ثم تعزّز ذلك في لقاء الخيمة على الحدود اللبنانية ـ السورية بين الرئيسين جمال عبد الناصر ـ بصفته رئيساً للجمهورية العربية المتحدة من مصر وسوريا ـ وفؤاد شهاب.
اليوم يمرّ العالم العربي مرة جديدة، وكالعادة أيضاً، بانقسام حاد يعكسه التحالف السوري ـ الايراني من جهة، ويعززه الصراع الأميركي (الأوروبي) ـ الروسي حول ملفات المنطقة بما فيها الملف النووي الايراني، والملف العراقي، والملف الفلسطيني.
وكالعادة كذلك يتمحور ذلك كله في لبنان على النحو الذي يعكسه التعطيل المستمر لانتخاب رئيس جديد للجمهورية.
الآن، وقياساً على تجربة عام 1958، فان إرسال وحدات من قطع الأسطول الاميركي السادس الى شرقي المتوسط (والتي كانت المدمرة كول طليعتها ) يشكل مؤشراً عملياً على ما ينتاب الولايات المتحدة والغرب عامة من قلق على أوضاع مصالحها الستراتيجية في المنطقة.. الأمر الذي ربما يدفع الأمور في احد اتجاهين :
اما المواجهة العسكرية، واما التوافق والتسوية.
في عام 1958 تحقق التوافق بين الثلاثة الكبار: عربياً جمال عبد الناصر، ولبنانياً فؤاد شهاب، وأميركياً دوايت ايزنهاور.
اما الآن، فلا قيادة عربية قادرة على الاستقطاب، ولا رئيس في لبنان ؛ أما في الولايات المتحدة فان جورج بوش الذي بدأ يجمع أوراقه من البيت الأبيض، فانه يتمتع بأدنى شعبية لأي رئيس أميركي سواء داخل الولايات المتحدة أو خارجها.
ومن نتائج هذا الواقع تطويل الأزمة في لبنان وإبقاؤه ساحة مفتوحة بانتظار الحسم بطريقة أو بأخرى.
انه من سوء حظ لبنان. بل انه من سوء تصرف السياسيين اللبنانيين الذين لم يتعلموا من دروس الماضي.. والذين يواصلون، عن عدم جهل منهم، تحويل وطنهم الى مسرح للصراعات الاقليمية.. وحتى للصراعات الدولية.