أنقرة: أكدت هيئة الأركان العامة التركية سحب القوات من العراق. وحدث هذا في اليوم الذي عقب زيارة وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس لأنقرة. وإن الولايات المتحدة التي باركت بسكوتها الحملة العسكرية التركية في أراضي العراق، قررت فيما بعد أنه بوسع استمرار الحملة إلحاق ضرر بمصالحها.

وبدأت هذه الحملة التي استهدفت تدمير قواعد مقاتلي حزب العمال الكردستاني في 21 فبراير. وأعربت الولايات المتحدة في الأيام الأولي، بعد تأكيدها على حق تركيا في الدفاع عن النفس، عن الرغبة في ألا تطول العمليات الحربية، إلا أنه لم يجر تحديد أطر زمنية معينة. وبدأ الوضع في الأيام الأخيرة يتغير بشكل حاد. فأعلن الرئيس الأميركي جورج بوش يوم الخميس أنه quot;يتعين على الأتراك العمل بسرعة، وتحقيق أهدافهم، والانسحاب من العراقquot;.

وكان وزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس خلال زيارته إلى أنقرة أكثر وضوحا. وقد قال وهو في الطريق إلى العاصمة التركية، إن الحملة يجب أن تستمر ما لا يزيد على quot;أسبوع ـ وآخرquot;، ويدور الحديث لا عن أشهر، وإنما أيام. كما أكد غيتس أنه يجب أن تستخدم في حل القضية لا أساليب القوة فحسب، بل وسياسية واقتصادية. وكرر هذا يوم الخميس 28 فبراير، إثر المباحثات مع نظيره التركي وجدي غونول، والسياسيين الأتراك الكبار الآخرين.

ويطرح المسؤولون الأميركان والأوروبيون هذه الأفكار ليس للمرة الأولى. كما أن تسوية القضية الكردية تشكل أحد شروط مناقشة آفاق انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي. ومع ذلك ظلت كافة هذه التصريحات حتى الوقت الحاضر غير نافعة، ومن المستبعد أن يحدث تغير في القريب العاجل.

ورغم كل شيء أوقف السياسيون الأتراك الحملة، علما بأنهم كانوا يكررون بإصرار عشية ذلك، أنه لن توضع أطر زمنية محددة للحملة العسكرية، والقوات لن تنسحب من شمال العراق، طالما لم يتم القضاء على الخطر من جانب المقاتلين الأكراد.

وكان الجواب متوقعا ـ لا يستطيع أي بلد تحديد فترة دقيقة لعملية مكافحة الإرهاب، إذ لا يمكن تخمين تطورات الوضع. فإن قواعد المقاتلين اليوم في مكان، وفي الغد في مكان آخر، ويحل محل القتلى عشرات المقاتلين الجدد. ومن الممكن أن تطول الحرب إلى ما لا نهاية. وإن محاولات تركيا للقضاء على التشكيلات المسلحة لحزب العمال الكردستاني داخل أراضيها مستمر منذ 24 سنة. كما لا توجد ضمانات بتوفق أنقرة في أراضي الغير. ومع ذلك اتخذ قرار سحب القوات.

ومن المميز أن وزارة الدفاع التركية تؤكد في بلاغاتها المخصصة للنشر، أن أنقرة اتخذت قرار بدء الحملة وإنهائها ذاتيا. ونشأت الحاجة إلى هذه الملاحظة كما يبدو، لأن التوازي بين زيارة غيتس وتصريح بوش حول سحب القوات جلي جدا.

وعلى ما يبدو، من الصعب على تركيا تجاهل نصائح واشنطن الملحة فترة طويلة. فقد كان من الممكن أن تجري الحملة لحينما تدخل في التعارض مع مصالح الولايات المتحدة في المنطقة. وكان من الممكن أن يحدث هذا في أي وقت، وحدث.

ولم تعارض أي من القوى الإقليمية بما فيها حكومة العراق وقيادة الأكراد العراقيين، الأهداف التي حددتها تركيا للحملة. ومع ذلك تكمن المشكلة في نتيجة العمليات الحربية التركية، وإمكانية الإخلال بالتوازن السياسي الهش أصلا في العراق. فقد كان يكفي لهذا خطأ الجنود الأتراك مرة واحدة والتهديف على المنشآت المدنية الكردية في شمال العراق بدل مقاتلي حزب العمال الكردستاني. أو مجرد إطالة الحملة العسكرية. فمن المستبعد أن يتحمل أكراد العراق التواجد التركي على أرضهم فترة طويلة.

ويجري في العراق أصلا جدل لا نهاية له بشأن تقسيم الصلاحيات بين المركز والمحافظات، وتعتبر العلاقات بالذات مع الأكراد الذين كانوا منذ بداية التسعينات تحت رعاية الغرب ومستقلين عمليا عن بغداد عويصة جدا. فهم لا يودون اقتسام سيادتهم، والاجتياح التركي يعبئ الأكراد أكثر.

وإن قضية مدينة كركوك علاوة على ذلك تعتبر من القضايا المؤلمة والحادة جدا في جدول الأعمال السياسي في العراق. فقد جرى في عهد صدام حسين تعريب المدينة الكردية من غابر القرون، وتزحيف الحدود الإدارية لكردستان العراق. ويطالب الأكراد الآن بإعادتها لهم. ويعارض هذا سكان المدينة العرب، وكذلك التركمان الذين يعيشون فيها، وترعاهم تركيا.

ويفاقم الجدل حول عائدية المدينة وقوعها على حوض نفطي غني. وكان من المفروض أن يجري في ديسمبر عام 2007 استفتاء حول مصير المدينة ـ ولكنه أجل إلى يونيو القادم لاعتبارات سياسية. وإذا طالت الحملة التركية، فإن هذه القضية quot;ستعلق في الهواءquot; من جديد. ولربما هذا في صالح تركيا والولايات المتحدة، ولكن من جانب آخرـ هل يستحق هذا إزعاج أكراد العراق، لأن الرهان لا يقتصر على مصير كركوك، بل وهناك قضايا أخرى بما فيها سن قانون النفط، والصيغة النهائية لدستور العراق، ناهيك عن استقرار الوضع في البلد عموما.

فإنه أخذ يتردى في الآونة الأخيرة أكثر فأكثر. وفي النتيجة بوسع المناورات السياسية للولايات المتحدة، التي تحاول الحفاظ على الموازنة بين كافة الأطراف الإقليمية، تكليف واشنطن في نهاية المطاف غاليا.