طورد لأكثر من 14 سنة حماه خلالها الناس
محمد شحادة القائد الأسطوري الذي تفاخر باراك بقتله

محمد شحادة والاسير محمد عابدة (عدسة ايلاف)
أسامة العيسة من القدس: عندما حصل الفتى محمد شحادة، على أول مسدس حقيقي في حياته، وكان ذلك قبل نحو 25 عاما، لم يعبث أو يلعب به، ولكنه إعتلى سور القدس، وأطلق النار على أول جندي إسرائيلي، رآه، بالقرب من باب الساهرة، أحد أبواب السور المهمة، المطلة على شمال المدينة. ومساء يوم الأربعاء الماضي، قتل شحادة، الذي أصبح أحد أهم المطلوبين للسلطات الإسرائيلية، مع ثلاثة من رفاقه، في عملية نفذتها وحدة (يمام) الإسرائيلية الخاصة، في مشهد لا يراه العالم إلا في أفلام هوليود السينمائية، ووضعت حدا لمطاردة شحادة التي إستمرت 14 عاما. وبين التاريخيين، تحول شحادة إلى بطل شعبي في وجدان الفلسطينيين، قلما نجد له مثيلا، لدى شعب مسيس، وله قدرة فائقة على كشف نفاق السياسيين، وفي كثير من المرات لا يتورع عن إلصاق صفات التخوين بهم.

وخلال أحاديث طويلة، في فترة المطاردة، أدلى بها لـ إيلاف، كان يعتبر شحادة نفسه، نموذجا لجيل فلسطيني تفتحت عيونه على الاحتلال، ولم يكن له أي خيار غير سلوك طريق المقاومة. وبعد عملية سور القدس، الجريئة بمقاييس ذلك الوقت، والذي كان حصول فتى فلسطيني على مسدس، يعتبر إنجازا كبيرا، في ظل قبضة اسرائيل القاسية، واجه شحادة اختبارا هاما، لمشاعره الوطنية، عام 1981، عندما ارتكبت اسرائيل ما اعتبر في حينه جريمة مؤثرة، بقتل الطالبة الجامعية تغريد البطمة، فقرر الانتقام، بمجابهة فرقة من الجنود الإسرائيليين وسط مدينة بيت لحم، ونجح في إصابة أحد الجنود بجراح خطيرة، والقي القبض عليه لاحقا، وأصدرت محكمة عسكرية إسرائيلية حكما عليه بالسجن 25 عاما، والفترة التي قضاها في السجون، محسوبا على حركة فتح، كانت مهمة لشغوف مثله بالقراءة، لصقل ثقافته، والانفتاح على مدارك جديدة، وهو ما ساعده لاحقا في حسم خياراته السياسية والفكرية، ليس بالشكل التعسفي الذي يميز غالبية العقائديين العرب.

واطلق سراح شحادة في صفقة تبادل الأسرى، التي أبرمتها الجبهة الشعبية القيادة العامة مع إسرائيل، في أواسط ثمانينات القرن الماضي. ووجد شحادة نفسه، الذي عمل في مشفى المقاصد بالقدس، ضمن تيارات تتشكل داخل حركة فتح، أنهكتها محاولاتها إصلاح الحركة من الداخل، فبحث عن طريق آخر، وقدر لهذه التيارات أن تكوّن، مع جهود أخرى تجري في أمكنة أخرى، ما عرف لاحقا بحركة الجهاد الإسلامي. ورغم أن هذه الحركة، فاخرت لاحقا، بأنها أول من ادخل العمل الإسلامي في حركة المقاومة الفلسطينية المعاصرة، إلا أنها بقيت تتميز بما يمكن تسميته ليبرالية، تجاه الأفكار الأخرى، ويعود ذلك إلى أشخاص مثل امينها العام السابق الدكتور فتحي الشقاقي، من الصف القيادي الأول، والى آخرين من الكوادر والأعضاء، الذين جاؤوا إلى الحركة، قبل أي شيء من منطلقات وطنية، اكثر منها أيدلوجية صارمة، مثل محمد شحادة.

وتعرض شحادة إلى الإبعاد، مع عشرات من كوادر حركتي حماس والجهاد، إلى مرج الزهور، في جنوب لبنان، عام 1992، والتي شكلت تجربة مهمة لمعظم المبعدين، الذين اصبح كثيرا منهم الان معروفين على نطاق واسع، مثل محمود الزهار، وسعيد صيام، وإسماعيل هنية، وعزيز الدويك، واحمد بحر، وقبلهم الدكتور عبد العزيز الرنتيسي. وخلال فترة وجوده في مرج الزهور، تأثر شحادة بالفكر الشيعي، وبحزب الله اللبناني، وهو ما عبر عنه في لقاء مع كاتب هذه السطور، نشر في بداية انتفاضة الأقصى في مجلة (المجلة) اللندنية، واثار امتعاضا لدى المراكز الدينية السنية، مثل الأزهر، الذي رد شيخه آنذاك، واخرين من جبهة علماء الأزهر على شحادة، وهو ما آثار استغرابه، مما وصفه الضيق بحرية الاختيار.

ولم يكن اقتراب شحادة من الفكر الشيعي، إلا تعبيرا عن ما كان يسميها فطرته التي تنتصر للمظلومين، في أي كان وزمان. والتف كثيرون حول شحادة، في حين أن الضجيج الإعلامي حوله، ووفقا لمعومات خاصة، دفع السيد حسن نصر الله، أمين عام حزب الله، إلى طمأنة الدكتور رمضان شلح أمين عام حركة الجهاد، بالقول، انه ليس لدى حزب الله أية مشاريع أو خططا لنشر المذهب الشيعي وسط الفلسطينيين. وتوجد تفاصيل كثيرة، في تداعيات هذا الأمر، ربما لم يحن الوقت للكشف عنها، أو ستبقى طي الكتمان، خصوصا مع غياب الشاهد الرئيسي فيها، وهو شحادة نفسه.

وخلال انتفاضة الأقصى، بدأت تترسخ ما يمكن تسميتها أسطورة شحادة، مع نسبة قوات اسرائيل عددا من أعمال المقاومة النوعية له، واظهر شحادة، من خلال ما يعتقد انه أراده من خلال الوصايا التي كان يسجلها المقاومون، تفوقا أخلاقيا حاسما على اسرائيل، بتركيزه دائما على البعد الإنساني لأعمال المقاومة، ولمخاطبته الرأي العام الفلسطيني بمسلميه ومسيحييه، وتاكيده الدائم على الجانب المسيحي في الهوية الفلسطينية. ومع فشل قوات اسرائيل في اعتقاله، أو اغتياله، بدا شحادة قائدا مختلفا، يأخذ بأسباب التخفي، ويرفض أية أعمال استعراضية، وهو ما ساعد على تكوين أسطورته.

والمكانة التي حظي بها وسط الرأي العام الفلسطيني، قد لا يكون أحد سبقه إليها من القيادات الميدانية المقاومة، بشكل يبعث على الدهشة، خصوصا وانه بتكوينه الثقافي، وانفتاحه الاجتماعي، وشخصيته الديناميكية، ليس له علاقة أبدا بتلك الصفات النموذجية التقليدية التي لصقت بالنخب السياسية والثقافية في فصائل العمل الفلسطيني، التي عادة ما تبدا بالمقاومة، وسرعان ما تنته بالسقوط في أول إغراء مادي. وعن سبب قدرته الفائقة على التخفي، كان شحادة يقول quot;الناس هم الذين حمونيquot;، ولديه قصصا كثيرة في هذا الجانب، روى بعضها، وبعضها الآخر، أخذه معه. وقد عاش فترات طويلة، تحت الأرض، مع بعض من اعز المقربين إليه مثل عاطف الكامل، وعماد الكامل، شقيق عاطف، ومحمد عابدة وآخرين ما زالوا مطاردين.

ومرة قال رفيقه عاطف الكامل quot;عشنا مع شحادة في غرف تحت الأرض مع القوارض، ودائما أعطى المثل في القائد المضحي، واستيقظت مرة ورايته وقد غطاني ومطارد آخر ببطانية، بينما جلس ينفخ داخل قميصه ليحصل على قليل من الدفءquot;. وأحرجت فترة مطاردته الطويلة، أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ووضعت فرق المستعربين، في كثير من المرات على المحك، بعد عمليات مخطط لها جيدا، ولكنها فشلت في القبض عليه أو اغتياله.

وفي آذار (مارس) 2006، خاض غمار الانتخابات التشريعية الفلسطينية، فيما اعتبر، اغرب حملة لمرشح في تلك الانتخابات، بسبب ظروف المطاردة التي كان يعيشها. وكان شحادة، المرشح الوحيد الذي اعتمد في حملته الانتخابية على التبرعات من الجمهور، والمتطوعين الذين قادوا حملته الانتخابية ومن بينهم مجموعة من المطاردين الذين كانوا يرافقونه ويتولون حمايته. وقدم ميسورون ومعدمون تبرعات لشحادة، تعبيرا عن تعاطفهم معه، وثقتهم بمصداقيته، وأحلامه التغييرية. وكان شحادة يفاجئ الجمهور في تجمعات عديدة، بحضوره، برفقة المسلحين الذين يتولون حمايته، لإيصال برنامجه الانتخابي، في وقت قصير ثم يغادر المكان، لأسباب أمنية.

وفي تلك الأيام افتتح مؤيدوه مقرا انتخابيا له، ولكنه لم يكن يتواجد فيه، يزوره لفترات قصيرة جدا، وفي أوقات متباعدة، وكان مؤيدوه يشغلون أشرطة فيديو يتحدث فيها، وأخرى لمقابلات له تحدث فيها لمحطات التلفزة. ولم يكن شحادة، في تلك الانتخابات، التي قاطعتها حركة الجهاد الإسلامي، يمثل أي حركة أو حزب معين أو حتى تيار، وكثيرا ما ردد بان الأطر مهما كانت تشكل عائقا أمام التفكير الحر، واعلن انه يسعى quot;لتشكيل تجمع مفتوح يضم كل الأحرار، بغض النظر عن معتقداتهم وأفكارهمquot;.

وحظي بتأييد من المطاردين الآخرين مع اختلاف انتماءاتهم السياسية، وتعاطف أمهات الأسرى والجرحى والشهداء. وحول شعبيته لدى هذه الفئات قال شحادة آنذاك لايلاف quot;انهم يرون أبنائهم في، ويرونني بمثابة الشهيد الحيquot;. واضاف quot;أنا منحاز لصف المظلومين من مختلف الفئات والشرائع التي تعاني القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وسأحارب كل من يستقوي بالسلطة أو بسرقة أموال الناس، وسأبقى ملتزم بالوفاء لدماء الشهداءquot;. وحصل شحادة على نسبة مرتفعة من أصوات الناخبين، ولكنها لم تخوله الدخول إلى المجلس التشريعي، في حين كثف الإسرائيليون مطاردتهم له. وقبل نحو أربعة اشهر، تمكنت أجهزة المخابرات الإسرائيلية من اختراق، الدرع الأمني المحيط بشحادة، عندما اعتقلت قوات إسرائيلية خاصة عاطف الكامل، مساعده الأيمن، الذي كان يتردد على أحد المستوصفات للعلاج فتم اعتقاله، ولا زال حتى الان يخضع لتحقيق يوصف بأنه قاس في زنازين سجن المسكوبية بالقدس.

وفي 24 كانون الأول (ديسمبر) 2007، قال شحادة لايلاف، خلال لقاء تم بناء على طلبه، بأنه تمكن من الوقوف على الخلل الأمني الذي أحاط باعتقال الكامل. ولكن ذلك لم يحل، دون أن تتمكن قوات الأمن الإسرائيلية من تحقيق إنجازا آخر لها قبل أربعين يوما، عندما طوقت آلياتها أحد المنازل في حي وادي معالي في مدينة بيت لحم، بعد أن رصدت أجهزة المخابرات الإسرائيلية أمرا طالما انتظرته، وهو عودة ابن العائلة التي تسكن في المنزل إليه بعد غياب طويل، ولم يكن هذا الابن سوى محمد عيسى عابدة (30) عاما، المطارد لقوات اسرائيل منذ سنوات، والذراع الأيسر لشحادة.

ولم يكن في اجندة عابدة اليومية زيارة منزله، ولكن الشوق غلبه لرؤية والده المسن المقعد، وكان ذلك خطأه الأمني الأكبر منذ سنوات، وأدى ذلك إلى اعتقاله، من قبل قوات اسرائيل التي قتلت أحد الأطفال وهو قصي الافندي. وبدأت الحلقات تضيق على شحادة، وخيل لأجهزة الأمن الإسرائيلية أنها نالت منه، عندما طوقت منزله يوم 6 آذار (مارس) الجاري، لاعتقادها انه داخل المنزل، الذي تم قصفه ثم هدمه quot;على راس صاحبهquot; ولكن شحادة كان نجح في تضليل المخابرات الإسرائيلية، وكان ذلك هو التضليل الأخير.

ففي مساء الأربعاء الماضي (12 آذار)، اعترضت وحدة مدربة من المستعربين، سيارة كان يستقلها، مع ثلاثة آخرين من رفاقه، وخلال أربعة دقائق، انهت حسابا طال انتظاره بالنسبة لها مع شحادة، أسفر عن إعدامه وكل من عماد الكامل، وعيسى مرزوق، واحمد البلبول، ووفر ذلك لوزير الدفاع الإسرائيلي ايهود باراك، تسويغا ليفاخر بما اسماه نجاحا لقواته بالوصول إلى شحادة، الذي شيع إلى مثواه الأخير، في اليوم التالي الخميس، ملفوفا بعلم حزب الله، في إحدى اكبر الجنازات التي تشهدها الأراضي الفلسطينية، وبذلك اكتملت أسطورة شخص دب على الأرض الفلسطينية، التي فتنت طوال تاريخها بالأساطير، ولكنها افتقدت الأبطال الأسطوريين منذ فترة طويلة.