واشنطن: اكتسب الجدل السياسي في الولايات المتحدة حول أوضاع القوات الأميركية في العراق زخماً متزايداً علي إثر تصاعد التنافس الحزبي بين الديموقراطيين والجمهوريين مع اقتراب انتخابات الرئاسة الأميركية أواخر هذا العام (نوفمبر 2008). فقد ألقت الأحداث المتلاحقة علي الصعيد الميداني في العراق بظلالها علي توجهات الرأي العام الأميركي تجاه الأوضاع في العراق، ومدي تحقيق القوات الأميركية لنتائج ملموسة تتجلي في الارتقاء بالأوضاع الأمنية في العراق بعد مرور خمس سنوات من الحرب الأميركية على العراق.

ومن هذا المنطلق يسعى هذا التقرير لاستقصاء معالم رؤية الأميركيين لتطور الأوضاع في العراق من خلال تحليل نتائج استطلاعات الرأي التي تناولت تلك القضية.

الحرب علي العراق ما بين التبرير الأخلاقي و الضرورة
بداية يمكن القول أن الرأي العام الأميركي قد تبلورت لديه قناعة بأن استخدام القوة العسكرية لإسقاط النظام العراقي السابق واحتلال العراق لم يكن مُبرراً أو ضرورياً لتحقيق المصالح القومية الأميركية، وهو ما كشفت عنه استطلاعات الرأي التي أجرتها شبكة سي بي إس الإخبارية CBS News Poll مابين 14سبتمبر 2007 و24 فبراير 2008. وتظهر نتائج الاستطلاع أن نسبة من يرون أن استخدام القوة العسكرية ضد العراق لم يكن مبرراً تراوحت ما بين 51% و59% من إجمالي من شملهم استطلاع الرأي.

وأكد حوالي 58% في استطلاع آخر للرأي أجرته الشبكة في 18 مارس 2008 علي اقتناعهم بأن نظام صدام حسين لم يكن متورطاً في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 كما ادعت بعض عناصر الإدارة الأميركية، وهو ما يعكس وجود تغير عن النتائج التي كشفها استطلاع الرأي في 2 أكتوبر2003 والذي أيد فيها حوالي 51% تورط صدام حسين في تلك الأحداث الإرهابية.

وترتب علي ذلك تأكيد حوالي 53% ممن شملهم استطلاع للرأي أجراه معهد جالوب للرأي العام Gallup Poll في 24 فبراير 2008 بأن الإدارة الأميركية قد ضللت الشعب الأميركي. حينما ادعت امتلاك العراق لأسلحة دمار شامل، وهو الأمر الذي يعكس انتقالاً في توجهات الرأي العام الأميركي إزاء هذه القضية، إذا ما تمت مقارنة تلك النتائج باستطلاع الرأي الذي أجري في 6 يناير 2003 الذي أيد فيه حوالي 67% من المستطلع آراؤهم أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل. بينما أكد حوالي 54% ممن شملهم استطلاع مركز بيو لأبحاث الرأي العام والصحافة Pew Research Center for the People amp; the Press survey في 24 فبراير 2008 أن الولايات المتحدة قد اتخذت قرارا خاطئا باستخدام القوة العسكرية ضد العراق

هل تحقق الانتصار الحاسم في العراق؟
أما علي صعيد تطورات الأوضاع في العراق فإن غالبية الأميركيين يقيمونها بصورة سلبية من حيث عدم إمكانية تحقيق الأمن والاستقرار علي المدى القريب، ومن ثم تحقيق الأهداف التي أعلنتها الإدارة الأميركية في بدايات الحرب. فلقد أضحت سياسة هذه الإدارة موضع انتقاد من جانب غالبية الأميركيين، وهو ما كشفت عنه نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة وول ستريت جورنال Wall Street Journal Poll، أن نسبة الأميركيين الرافضين للنهج المتبع من جانب إدارة الرئيس بوش في التعامل مع الأوضاع في العراق قد تراوحت ما بين 62% في 10مارس 2008 و67% في 16 يناير 2007 . وأكد حوالي 51% ممن شملهم الاستطلاع أن الولايات المتحدة لا تُحقق تقدماً في استعادة الاستقرار ونظام الحكم المدني، في مقابل أيد 64% هذا الرأي في استطلاع تم أجراؤه في 1 يونيو 2007.

وعلي صعيد تقييم الأوضاع العسكرية في العراق، تراوحت آراء الأميركيين بين من يرون أن هذه الأوضاع لم تشهد تغيراً ملحوظاً بنسبة 41% ممن شملهم استطلاع الرأي، في مقابل 39% يرون أن هذه الأوضاع شهدت تحسناً ملحوظاً. بينما أشارت نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته وكالة الاسوشيتد برس Associated Press بالتعاون مع مركز ايبسوس للرأي العام Ipsos poll في 9 يناير 2008 أن أوضاع القوات الأميركية في العراق قد أصبحت غير مرضية بالنسبة لغالبية الأميركيين وفق ما أكده حوالي 65%.

وفيما يخص الأوضاع السياسية، أكد حوالي 49% ممن شملهم استطلاع الرأي أن هذه الأوضاع لم تشهد أي تغير نحو الاستقرار، وأشار حوالي 61% ممن شملهم استطلاع آخر أجرته محطة السي إن إن الإخبارية CNN ومؤسسة أبحاث الرأي العام Opinion Research Corporation Poll في 16 مارس 2008 أن الحرب في العراق لم ينتصر فيها أي طرف سواء الولايات المتحدة وحلفائها أو المتمردين .

أثر الأوضاع في العراق علي الداخل الأميركي
انطلاقا من التقييم السلبي للأوضاع في العراق كما تبين سلفاً فإن تصاعد التكلفة المادية والبشرية للحرب علي العراق قد أصبح مثيراً لقلق الرأي العام الأميركي، في ظل المصاعب التي يعاني منها الاقتصاد الأميركي، والتي ألقت بظلالها علي توجهات الجمهور الأميركي، حيث أكد حوالي 64% في استطلاع للرأي أجرته شبكة سي بي إس الإخبارية CBS News Poll أن النتائج التي تحققت في العراق لم تكن تستحق تلك التكلفة المادية والبشرية التي تكبدتها الولايات المتحدة.

ورأي حوالي 63% أن التدخل الأميركي في العراق كان له أثر سلبي علي حياة المواطنين في الولايات المتحدة، وبالتحديد علي المستوي الاقتصادي، وهو ما أكده حوالي 71% ممن شملهم الاستطلاع، والذين ربطوا بين تصاعد التكلفة المادية للحرب في العراق والمشكلات الاقتصادية التي تواجهها الولايات المتحدة حالياً باعتبارها أحد مسببات تلك المشكلة.

التنافس الحزبي و توجهات الرأي العام تجاه العراق
لقد اكتسبت الأوضاع في العراق تسييساً متزايداً من جانب الحزبين الجمهوري والديمقراطي؛ لتواكب مرور خمس سنوات علي دخول القوات الأميركية للعراق، مع قرب الاستحقاق الرئاسي أواخر هذا العام والذي يُتوقع أن يشهد منافسة محتدمة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، وهو ما دفع بالأوضاع علي الساحة العراقية إلي صدارة الحملات الانتخابية للمرشحين في كلا الحزبين.

وفي هذا الإطار، اختلف تقييم مؤيدي الحزب الديمقراطي عن نظرائهم الجمهوريين لسياسة إدارة الرئيس بوش في العراق، فبينما رأي حوالي 91% من مؤيدي الحزب الديمقراطي أن هذه السياسة لم تحقق نجاحا ملموساً، أكد حوالي 65% من مؤيدي الحزب الجمهوري أن هذه السياسة قد حققت نجاحاً علي الصعيد الميداني ضمن نتائج استطلاع الرأي الخاص بشبكة سي بي إس CBS News Poll

وبصورة عامة، يمكن القول أن الرأي العام الأميركي قد أصبح ينظر لتوجهات الحزب الديموقراطي حول الأوضاع في العراق باعتبارها قد تؤدي لتحقيق تقدماً ما في هذا الصدد، وهو ما يرتبط بتفضيل انسحاب القوات الأميركية من العراق مع الاختلاف حول التوقيت ونطاق هذا الانسحاب.

وفي هذا السياق، كشف استطلاع للرأي أجرته صحيفة نيويورك تايمز New York Times في 9 ديسمبر 2007 أن حوالي 45% من الجمهور الأميركي يري أن مرشح الحزب الديمقراطي في حالة وصوله للرئاسة سوف يتخذ قرارات صحيحة بشأن الأوضاع في العراق، في مقابل تأييد 30% للتوجهات التي يمثلها الحزب الجمهوري حول العراق.

وفي استطلاع آخر أجرته صحيفة واشنطن بوست Washington Post في 1 نوفمبر 2007 أكد حوالي 50% ممن شملهم الاستطلاع أنهم يثقون في قدرة الحزب الديمقراطي للتعامل مع الأوضاع في العراق، في مقابل 34% للحزب الجمهوري.

وكشف استطلاع آخر للرأي أجرته صحيفة واشنطن بوست في 30 سبتمبر 2007 أن حوالي 50% من الأميركيين يرون أنه في حال تولي مرشح ديمقراطي للرئاسة الأميركية فإنه سوف يتعامل مع الأوضاع في العراق بشكل أكثر فعالية، ولكن في المقابل فإن أداء أعضاء الكونغرس المنتمين للحزب الديمقراطي لا يحظي بقبول غالبية الأميركيين، ربما لعدم اتخاذهم مواقف حاسمة لتقييد قدرة الإدارة الأميركية و إلزامها بتطبيق رؤيتهم حول الانسحاب من العراق أو تحديد جدول زمني لذلك.

وفي هذا الصدد، كشف استطلاع للرأي الذي أجرته شبكة سي بي إس الإخبارية في 16 سبتمبر 2007 أن حوالي 57% من الأميركيين لا يوافقون علي أسلوب أعضاء الكونغرس الديمقراطيين في التعامل مع إدارة الأوضاع في العراق.

بدائل معالجة إشكاليات العراق
اتجهت الخيارات المطروحة التي تحظي بتأييد نسبي من جانب الرأي العام الأميركي في التعامل مع الأوضاع في العراق للتقلص بشكل متزايد تحت وطأة تردي الأوضاع الأمنية في العراق، حيث أضحت تتلخص في تقليص عدد القوات الأميركية في العراق سواءً بشكل تدريجي أو فوري.

كما أصبح خيار زيادة عدد القوات الأميركية في العراق تحت دعوي إسهام ذلك في تحسين الأوضاع الأمنية موضع جدل حاد في الآونة الأخيرة، حيث أكد حوالي 56% ممن شملهم استطلاع الرأي الذي أجرته صحيفة واشنطن بوست Washington Post في 30 سبتمبر 2007 أن زيادة عدد القوات الأميركية في العراق لن يُحدث تحسناً علي صعيد تحسين الأوضاع الأمنية هناك. في حين أشار حوالي 54% أنهم يفضلون انسحاب القوات الأميركية من العراق في مقابل تأييد 43% لبقاء القوات الأميركية في العراق.

أما عن توقيت الانسحاب الأميركي من العراق، فإن الجمهور الأميركي علي الرغم من عدم تأييده للانسحاب فوري، فإنه يري ضرورة إتمام هذا الانسحاب في أقرب وقت ممكن، حيث رأي حوالي 46% ممن شملهم استطلاع شبكة سي بي إس CBS News Pollفي 18 مارس 2008 أن بقاء القوات الأميركية يجب ألا يتجاوز عام واحد في مقابل تأييد 22% لبقائها لمدة عامين في العراق، وهو ذات التوجه الذي كشف عنه استطلاع صحيفة لوس أنجلوس تايمز Los Angeles Times ومركز بلومبرج لاستطلاعات الرأي Bloomberg Poll الذي أيد فيه حوالي 43% انسحاباً خلال عام من العراق في مقابل تأييد 20% للانسحاب الفوري و30% للبقاء لأطول فترة ممكنه .

وأكد حوالي 52% في استطلاع لصحيفة وول ستريت جورنال Wall Street Journal Poll في 10 مارس 2008 علي ضرورة انسحاب معظم القوات الأميركية من العراق بحلول عام 2009 . ولكن الانقسام قد بدا واضحاً حول نطاق الانسحاب الذي يدعمه الرأي العام الأميركي، وهو ما كشف عنه الاستطلاع الذي أجرته قناة السي إن إن الإخبارية CNN بالتعاون مع مؤسسة دراسات الرأي العام في 9 ديسمبر 2007 ، فبينما أيد حوالي 39% انسحاباً جزئيا للقوات الأميركية، دعم 30% ممن شملهم الاستطلاع انسحاباً كلياً لهذه القوات بحلول عام 2008 .

ويبدو أن هذا الجدل لم يحسم بشكل قاطع نظرا لديناميكية تغير توجهات الرأي العام الأميركي حول هذه القضية ما بين التأييد والرفض وهو ما تؤكده نتائج استطلاع الرأي الذي أجرته ذات المؤسستين في 9 سبتمبر 2007 والذي دعم فيه حوالي 36% من المبحوثين انسحاباً جزئياً مقابل تأييد حوالي 29% للانسحاب الكلي.

ويتناقض ذلك مع نتائج ذات الاستطلاع في 24 مايو 2007 التي حظي فيها الانسحاب الجزئي بتأييد 24% في مقابل 39% للانسحاب الكلي ، بما يؤكد وجود تغيرات آنية في رؤية الأميركيين لنطاق الانسحاب وهو ما قد يعزي إلي عدم استقرار الأوضاع في العراق والتأثر بوتيرة العمليات العسكرية و مستوي الخسائر البشرية الأميركية في العراق.