اثمانها تبني اكثر من محطة كهربائية
العراقيون.. اكثر سكان الارض استهلاكا للشموع!!

عبد الجبار العتابي من بغداد:هي الشمعة.. تلك التي في رأسها خيط يشتعل، تلك الصغيرة التي صارت اهم مقتنياتنا نحن العراقيين، لعبة حياتنا، فلايوجد بيت من بيوتنا لم تدخله ضيفة دائمة معززة مكرمة، عسى ان تضيء لنا مساحة نطرد بها الظلام،وان كانت تبعث دخانا، فدخانها عطر فرنسي، ونستذكر معها المثل الصيني (بدل ان تلعن الظلام.. اشعل شمعة) الذي يبدو انه صار قدر العراقيين، فهم كل مساء يلعنون الظلام ويشعلون الشموع، منذ سنوات طويلة، حتى ان اللعنات التي صبت على الظلام اكثر من تلك التي صبت على الشيطان!!، فالشموع التي يستخدمها العالم لرومانسياته امست عند العراقيين تعبيرا عن التراجيديا التي يعيشونها، فلم يعد بوسعهم غير ان يتأقلموا معها، ان تكون حبيبة الى قلوبهم، تقف في المكان الاقرب الى اليد، وما ان يحل المساء حتى تحلق حولها العيون، وتتغزل بها : ( آه.. ايتها الصغيرة، ايتها الحلوة،الحبابة، المضيئة، ننحني اليك، ونقبل وجهك الحلو، آه.. ايتها الحلوة، نحن بدونك، خفافيش لانرى سوى الصوت)، وماذا يفعلون ؟، تقبل الاعوام وتدبر، وليس لهم الا ان يحتموا بها من ظلمات لياليهم، انهم اكثر شعوب الارض استهلاكا للشموع،كل لياليهم شموع في شموع، حيث تجارتها رائجة جدا، ليس هناك دكان لا تتصدر بضاعته، ولا سوق الا وحفل بها، بعد ان صارت الكهرباء ابخل من كل بخلاء جدهم (الجاحظ)، لاتمنحهم من ضوئها الا رشفات لا تضيء مساحات الوجد التي في نفوسهم، لاتأتي الا لماما، في اوقات متباعدة من اليوم ولوقت لا يتجاوز الساعة من اثنتي عشرة ساعة، واحيانا تكون هذه الزيارة في ساعات النوم فلا يشعر بها الناس النائمون!!، اما (المولدات) الكهربائية التي غزت الاسواق والمتاجر، فهي ليست الا عند البعض، ومع كل غلاء وشحة للبنزين واخوانه، فالعودة سريعة الى الشمعة، التي هي جاهزة لاشعال خيطها بفرح غامر.
وحكاية الشموع في عراقنا الحبيب حكاية، ومن الممكن ان يذهب الواحد منا الى الدكان وبدل ان يشتري لاطفاله (حلوى) يعود حاملا (دستة) شموع يمنح كل واحد منهم واحدة ليقرأ في ضوئها البعض والبعض الاخر لاضاءة امكنة استعمالاته، قلت لصاحب الدكان الذي في شارعنا : كبف احوال الشموع لديك ؟ فقال : (شغلها.. خير من الله، فالصغيرة تباع والاصغر والاكبرحجما التي لاتباع الا في المناسبات السعيدة فهي تستخدم للاستعمال اليومي، وبكل الالوان، ولايمر يوم دون ان ابيع نصف ما اشتريه للدكان).


فكرت وانا اغادر الدكان متسائلا : كم ينفق العراقيون على شراء الشموع شهريا ؟ على الفور اخذتني افكاري الى ذلك الرجل الذي ابتكر (التوقيت الصيفي) في القرن التاسع عشر، حين دعا الناس الى الاستفادة من ضوء النهار، وتقليل النفقات بشراء الشموع، أي ان التوقيت الصيفي كان من اجل تقليل النفقات، واذن.. كان علي ّ ان اقارن بين اولئك وبيننا، وجدت البون شاسعا، فعلى الاقل اولئك اعتادوا الظلام ولا تلفزيون لديهم ولا حواسيب ولا اجهزة اخرى تدخل الكهرباء في تشغيلها، تذكرت ايضا مثلا عراقيا شعبيا هو (فوق الحمل تعلاوة) وضحكت، أي ان الشموع جاءت لتزيد مكابدات الناس فوق المكابدات التي يعانونها في حياتهم ومنها انفاق الاموال على الشموع!!.


قررت ان اذهب الى سوق (الشورجة) لأتفقد احوال الشموع هناك، اذ ان الشورجة هي السوق الكبيرة التي تتدفق عليها البضائع من ارجاء الدنيا، لم تكن في عيوني سوى شكل (الشمعة) اينما اتطلع تتراءى لي، ولم تكن في الحقيقة تتراءى لي، بل كانت تقف امام عيوني تحاول ان تتراقص وتلوح لي بألوانها، هنالك شموع منفردة وهناك على شكل رزم، بعضها في علب (كارتونية) وغيرها مضغوط داخل (نايلون) شفاف، وبعضها معلق من خيطه في الواجهة وهو من الحجم الكبير، اشكال والوان، متراصفة كما تتراصف اية بضاعة مهمة ظاهرة للعيان، هالني ما ارى من كمية الشموع، (لو كنت مطربا لغنيت لها)!!، سألت صاحب دكان : ما هذه الكميات من الشموع ؟، رد ضاحكا : ( لأن كهرباء ماكو) ثم اضاف : ( افضل وسيلة لطرد الظلام، اشتري شمعة واشتم الظلمة)، ثم مررت اعاين واتأمل حضارة الشموع التي كتب على العراقيين ان يؤسسوها ويشغلوا معامل العالم بصناعتها، فالمناشيء مختلفة من بلدان شتى، شرقية وغربية، المهم كلها تشتعل وتضيء الليل المعتم وتلعن الظلام، ولكن كنت افكر في اقيامها المالية، والتي يمكن حين نحسبها نجدها تعادل اثمان عدة محطات كهربائية، ناهيك عن تلك السنوات التي ذابت فيها اجساد الشموع على سطوح الليالي، حيث لاينفع ضوء نهارالصيف ولا برد الشتاء، ولا تكنولوجيا الامريكان!!، هل هناك من يصدق ان الامريكان لايستطيعون توفير الكهرباء في العراق، هذا هو الكلام الذي يقوله كل عراقي ؟،هل تراني اضحك وانا احدق في كميات الشموع، ام احزن ؟، قلت : اذا كان السياب قد قال (أي حزن يبعث المطر) فعلي ان اقول (أي حزن تبعث كميات الشموع)، لو جمعت كل ما في الاسواق لبنينا هرما اكبر من (ابي الهول).


ليس لدي الا لن اعود الى البيت وانا احمل رزمة من الشموع، مررت من فوق جسر (الجادرية) رأيت اعمدة (مداخن) محطة الدورة الكهربائية الاربع تبعث دخانها الابيض من ثلاث،(الابيض يعني وجود طاقة كهربائية جيدة)، قلت وانا انظر الشموع في يدي : ايتها الشموع انت افضل من هذه التي تبث دخانها وبلا فائدة لنا، انت فيك ضوء، وليس في هذه العاليات الواقفات ببلاهة أي ضوء، ايتها الشموع اضيئي ليالينا واحرقي نفسك من اجلنا، صحيح اننا نحرق فيك حاصل جهدنا اليومي ولكن.. انت فاكهة ليالينا الدامسة وبك نتباهى، ثم ابعدت عيوني عن اعمدة المداخن الى جهة الفضاء الاخرى.