شيّده الأتراك واتخذه نابليون الثالث مقاما
قصر خداوج العمياء: أسطورة الجزائر الحية


كامل الشيرازي من الجزائر:يعد القصر الأثري العتيق quot;خداوج العمياءquot; الذي يقع أسفل حي القصبة الشهير (أعالي عاصمة الجزائر)، تحفة خالدة وأسطورة جزائرية حية، وإحدى الروائع المعمارية النادرة التي تتلألأ قبالة الواجهة البحرية الموروثة عن العهد العثماني، ورغم مرور خمسة قرون طويلة على بنائه أول مرة من قبل البحار التركي الشهير quot;خير الدين بربروسquot; في ربيع 1546، إلاّ أنّ أعمدته وأقواسه وفوانيسه لا تزال متشامخة كالطود العتيق على هامة مدينة الجزائر، كتاج يرصّع بلاد الولي الصالح quot; عبد الرحمن الثعالبي quot;.


تفيد بحوث تاريخية، إنّ الخزناجي quot;حسن باشاquot; (وزير التجارة في الدولة العثمانية في القرن السادس عشر، اشترى القصر المذكور، وقام بإهدائه لابنته الأميرة الكفيفة quot; خداوج quot; ومن يومها أخذ القصر إسم quot;خداوجquot;، هذا الأخير كنية مشتقة من اسم خديجة، ولا تزال هذه الكنية تلقى استحسانا كبيرا لدى سكان القصبة، والعاصميين لحد الآن، حيث يعمد الكثير من الآباء وحتى الأزواج يطلقون خداوج على أحب بناتهم ونسائهم.
وتروي أسطورة قديمة، دأب السكان على نقلها للأجيال المتعاقبة، أنّ الأميرة quot;خداوجquot; كانت فتاة باهرة الجمال والحسن، وفقدت بصرها لإفراطها في استعمال الكحل، وكانت معجبة كثيرا بنفسها، لذا أنفقت الساعات الطوال تتملى جمالات وجهها في المرآة، وبعد أن فاضت روح quot; خداوج quot; إلى بارئها، عادت ملكية الدار لإبني شقيقتها quot;عمرquot; وquot;نفيسةquot;.


وفي عام 1783، استأجر القصر، تاجر يهودي ثري ومفاوض بارع يدعى quot;ميشيل كوهين بكريquot;، قدم من مدينة جنوة الإيطالية، للإقامة مع أسرته في قصر quot;خداوجquot;، وبعد أن استقر به المقام في المدينة، زادت ثروته بشكل مدهش من معاملاته التجارية، لكن بعد دخول المحتلين الفرنسيين إلى الجزائر في 5 يوليو تموز 1830، وقع الاستيلاء على القصر بعد أن تم تعويض ملاّكه بمال زهيد ليصبح قصر quot; خداوج quot; فيما بعد مقرا لأول بلدية فرنسية في مدينة الجزائر، وبحسب المؤرخين فإن الغزاة لما دخلوا المدينة من الغرب، أفسدوها، وتركوها تصارع أعمال النهب والسرقة مدة ثلاثة أيام كاملة، وما يؤكد هذا الكلام، هو اختفاء بعض التحف النادرة التي كان عدد من المؤرخين والرحالة الذين زاروا المدينة قبل سقوطها، شاهدين عليها، ومن المفارقات أنّ quot;عزيزةquot; وهي حفيدة التاجر اليهودي quot;بكريquot;، عملت مترجمة لدى الحاكم الفرنسي، وقد اعتادت الطائفة اليهودية في الجزائر، منح ولائها للفرنسيين بعد سقوط الدولة، وظهر ذلك جليا من خلال هرولتهم للتجنس بالجنسية الفرنسية خلافا للسكان الأصليين من العرب والبربر، وعرف القصر منذ ذاك الوقت عديد التحويرات والترميمات، أخذت شكلا مغايرا بعد استقلال الجزائر في الخامس يوليو/تموز 1962.


ويتكون قصر quot; خداوج quot; من ثلاثة طوابق، أولها أرضي يقودك إليه درب صغير موشّى بجداريات من الرخام المزخرف، أما الطابقان الثاني والثالث، فتعثر فيهما على مشربية السلطان، وطقم كامل من غرف النوم والاستراحة وكذا الحمامات، وتتوسط الدار، مثلما هو حال جميع دور المدينة، صحن طويل بنسق فناء شاسع تزينه فصيلة من الأقواس الرخامية أبدعت الأنامل التركية في بسطها ورصّها، لتعانق نوافير يتسلل منها ماء زلال يشفي الظمآن.
ولأنّ القصر درة حية تخلب العقول، ووهج متأجج يأسر العيون في الجزائر، فقد اختاره ملك فرنسا quot;نابليون الثالثquot; وزوجته quot;أوجينيquot; اعتبارا من عام 1860، مقاما لهما، بين مئات القصور التي كانت تعج بها القصبة خلال القرن التاسع عشر.


ويقع القصر الذي حوّل إلى متحف للفنون الشعبية على مستوى الهضبة الجنوبية للضاحية المسماة quot; سوق الجمعة quot;، أين يطل عليك قصر quot;خداوجquot; الذي ينتصب فوق كوكبة من الدور والقصور التي بناها الأتراك القدامى على شاكلته.


وأصل حكاية quot; سوق الجمعة quot;، الذي هو عبارة عن تعاريج ضيقة، تحيط به منازل الأهالي وقصور أعيان المدينة السابقين، أنّ هذا المكان اشتهر بكونه ملاذا للكثيرين من عشاق الطبيعة، لذا اتخذّ فضاء لعرض وبيع مختلف أنواع الطيور النادرة وكذا الحمائم والعصافير المغردة، كل يوم جمعة اعتبارا من ظهور أولى خيوط الفجر إلى غاية ارتفاع صوت المؤذّن إيذانا بقرب خطبتي وصلاة الجمعة، وكانت زنقة سوق الجمعة من أرقى (الزنيقات) (أي الأزقة) في المدينة، لقربها من قصر الحاكم quot;الجنينةquot;، ولمجاورتها قصور الأعيان الواقعة على جانبي زنقة quot;العرائسquot;، ولا تزال تستقطب لغاية اليوم، عديد الزوار والتجار والفضوليين.