الأقصر(مصر): كان الحديث باللهجة العراقية، المنطلق من أحد مقاعد الطائرة المتجهة من القاهرة إلى مدينة ( الأقصر) الأثرية جنوب مصر، مدعاة لإثارة فضولي وتلفتي باحثة عن مصدر الصوت.. لأجد عائلة عراقية تقيم في مصر وقد قررت زيارة ( الأقصر) والتعرف إلى معالمها.
السيدة نهلة وزوجها إسماعيل يقيمان في العاصمة المصرية ( القاهرة) منذ عام ونصف العام، وقررا مع مجموعة من العوائل العراقية الذهاب إلى زيارة المدينة الأثرية الواقعة في أقصى جنوب مصر، والمشهورة بأنها تحوي وحدها (ثلث) آثار العالم القديم كله، وقضاء وقت ممتع أثناء عطلة نصف العام الدراسي لأولادهم الذين يتعلمون في المدارس المصرية.


وعندما هبطت الطائرة في مطار الأقصر الدولي، تجمعت تلك العوائل في مجموعة واحدة.. يقودها المرشد السياحي المصري (محمد البحر) في رحلة داخل قلب الحضارة الفرعونية المهيبة، التي يمتد عمرها لآلاف السنين قبل الميلاد.
يقول (البحر)، وهو من سكان الأقصر quot; إنها فرصة طيبة أن أقود مجموعة من العراقيين، لأنهم يتحدرون من حضارة عريقة.. ويفهمون معنى التاريخ جيدا.quot;


ويضيف المرشد السياحي المصري لمراسلة الوكالة المستقلة للأنباء ( أصوات العراق)، التي كانت بين المجموعة، قائلا quot; إنها المرة الثانية التي أقوم فيها بمرافقة مجاميع عراقية، وكانت المرة الأولى مفاجأة بالنسبة لي، حيث لم يسبق لي من قبل أن شاهدت عراقيين في هذا المكان.quot;
ويتابع quot; اعتقد أنها ظروف الحرب والهجرة التي جعلت العراقيين يفدون إلى مصر، ويفكرون بزيارة آثارها.quot;
تبعد الأقصر (670) كيلو مترا إلى الجنوب من العاصمة القاهرة، ويخترق (نهر النيل) المدينة ويقسمها إلى جزأين: الشرقي والغربي، أو ما يطلق عليه أهلها وزوارها: البر الشرقي والبر الغربي.


وتحوي المدينة التاريخية ثلث آثار العالم القديم، لأنها كانت مقر الحكم في مصر الفرعونية منذ العام (2100) إلى العام (750) قبل الميلاد، أي حوالى (1500) عام. ومن أشهر معالمها: معبد ( الكرنك) الضخم، ومعبد ( الأقصر) في الناحية الشرقية لنهر النيل، ومقبرة (حتشبسوت) ووادي الملوك ووادي الملكات على الناحية الغربية ( البر الغربي)، إضافة إلى المتاحف التي أنشئت حديثا وتضم مركزا للتحنيط الذي كان الفراعنة يتخذون منه رمزا للخلود.
ويرجع اسم الأقصر (جمع قصر) إلى بدايات الفتح الإسلامي لمصر، حيث أطلق العرب هذه التسمية على المدينة ذات المئة باب، والتي كان يسميها المصريون القدماء (طيبة).
من (معبد الأقصر) ابتدأت الرحلة إلى عمق التاريخ الفرعوني، حيث ذابت المجموعة العراقية وسط مجاميع السائحين في المعبد الذي يبدأ مدخله بالصرح الذي شيده الملك الفرعوني (رمسيس الثاني) وبه تمثالان ضخمان يمثلانه جالساً، ويتقدم المعبد مسلتان إحداهما مازالت قائمة.. والأخرى تزين (ميدان الكونكورد) في باريس.
يقول ( أبو أحمد)، وهو عراقي مقيم في القاهرة منذ عامين quot;هذه التماثيل تذكرني بآثار الحضارة البابلية، وبعض النقوش تشبه تلك المحفورة على (باب عشتار) في المدينة البابلية.quot;
ويضيف أن أولاده لم تتح لهم رؤية الآثار العراقية، حيث حالت انشغالاته دون اصطحابهم إليها.
( أبو أحمد) يعمل صيدلانيا في محافظة الموصل، وغادر العراق بعد تلقيه تهديدات من جماعات متطرفة بضرورة دفع أموال لتلك الجماعات من أجل مواصلة عملهم quot;الجهاديquot;، بحسب ما جاء في التهديد.


يقول لـ ( أصوات العراق) وهو بادي التأثر quot;على أثر التهديد، غادرت الموصل إلى عمان.. وعندما ضاق بي الحال مع أسرتي ولم أجد عملا فكرت في مصر، حيث يعمل قريب لي في متجر للأدوية في مدينة نصر، وقد ساعدني في العمل معه في المتجر لخبرتي في مجال الأدوية.quot;
أما زوجته السيدة ( أم أحمد)، فكانت تلتقط الصور التذكارية مع أولادها: أحمد وزينة، وسط فناء المعبد الذي يتوسط أربعة عشر عمودا ضخما، وقالت quot; ليتنا كنا نتجول الآن في إحدى باحات الآثار الآشورية في مدينتنا الموصل.quot;
وتضيف quot; لكن العنف الذي تعيشه المدينة حرمنا من التمتع بأبسط مظاهر الحياة في بلدنا.quot;
عند الإنتهاء من الجولة المصحوبة بالشرح في (معبد الأقصر)، قال مرشدنا السياحي المصري محمد البحر إن الآثار في هذه المدينة كثيرة جدا. وحين سأل المجموعة العراقية حول رغبتهم في المواصلة أم الاستراحة، أجاب الجميع بأنهم يريدون مواصلة الإبحار في عالم الفراعنة الساحر، الذي تجسده هذه المدينة المتفردة بين مدن العالم كله.
ظلت ( الأقصر)، أو (عروس الجنوب) كما يحلو للمصريين تسميتها، عاصمة لمصر حتى بداية الأسرة السادسة الفرعونية. وكان (معبد الكرنك) هو المحطة الثانية للعراقيين القادمين من رحم سومر وآشور وبابل.
يقول البحر quot; العرب لايهتمون كثيرا بزيارة الآثار كالأجانب الذين تكون الآثار على رأس أولوياتهم. ها أنتم ترون اليابانيين والألمان والروس والأميركيين يهبطون إلى تلك المدينة طوال أيام السنة، لكن الشتاء هو موسم السياحة الرئيس في الأقصر.quot;
في الباص الذي يقل السياح العراقيين من (معبد الأقصر) إلى (معبد الكرنك)، كان الحديث يدور حول الوطن وأخبار الأهل، حينما تلقى ( إسماعيل) اتصالا هاتفيا من أهله في بغداد للاطمئنان إليه وعلى عائلته. وكان الاتصال بالنسبة إلى جميع الموجودين فرصة لإعادة الذكريات والحنين إلى الأهل.
يقول اسماعيل، وهو مولع بالآثار quot;زرت العديد من الأماكن التاريخية في مصر، لكن يبدو أنني لم استطع حتى الآن زيارتها كلها. وتعتبر زيارتي لآثار الاقصر أهم إنجاز حققته منذ زيارتي لمصر.quot;


ويضيف quot;عدا ذلك نقوم نحن مجموعة من الأصدقاء العراقيين هنا بزيارة بعضنا، والتمتع بطبخ الأكلات العراقية.. خاصة أيام الجمع والعطل.quot;
وتقول زوجته السيدة نهلة quot;نجتمع كل ثلاث أو أربع عوائل كل يوم (جمعة) تقريبا، حيث يقضي الرجال وقتهم بلعبة ( الدومينو)، بينما نتحمل نحن النساء عناء الطبخ.. حيث يتفنن الرجال في طلب أكلات عراقية، مثل الدولمة والبرياني.quot;
وتضيف quot; لكنها تكون فرصة جيدة، تشعرني بأنني في العراق.quot;
مع الحديث حول أطباق ( البرياني) الشهية ولعبة ( الدومينو) الممتعة، وصلنا إلى (معبد الكرنك) أعظم دور العبادة في التاريخ، والذي يضم العديد من المعابد داخله.. وعرف منذ الفتح العربي باسم ( الكرنك) بمعنى الحصن.
ويضم المعبد تماثيل الملك (رمسيس الثاني)، أشهر ملوك مصر وأطولهم عمرا وحكما، حيث حكم البلاد (66) عاما متواصلة. وفي مدخل المعبد توجد صالة الأعمدة الكبرى التي تحتوى على (134) عموداً ضخماً من حجر الغرانيت.
وعندما شارفت الشمس على المغيب، كان الجميع على موعد مع عرض ( الصوت والضوء) المبهر في معبد الكرنك، والذي يروي قصة بناء هذا الأثر التاريخي الرائع بالكلمة والضوء واللحن الموسيقي. ويتم العرض مرتين يومياً، ويشهده المتفرجون بنحو ثماني لغات حية، من المدرجات المعدة لذلك.
واشار التسجيل الصوتي المصاحب للعرض إلى حضارة آشور وملكها ( آشور بانيبال)، آخر ملوك الإمبراطورية الآشورية (669 - 627 ق.م) الذي شهد عهده ازدهار الثقافة والفنون، وتأسيس أول مكتبة في نينوى، جمعت كل الأدب المسماري المتوفر في ذلك الوقت.
وتعلق (زينة)، إبنة أبو أحمد.. وهي طالبة بالمرحلة الإعدادية) قائلة quot;شعرت بالفخر وأنا اسمع تاريخ حضارتنا موجود في هذا التسجيل والعرض المبهر. لقد عرفت أن حضارة (وادي الرافدين) حضارة عظيمة كالحضارة الفرعونية التي نحن في حضرتها الآن.quot;
يواصل المرشد السياحي رحلته مع العوائل العراقية في أروقة معابد الكرنك، لكن اليوم الأول انتهى. والكل شعر بالتعب بعد رحلة استمرت حوالى ثماني ساعات، وحان وقت الراحة.


يقول محمد البحر له quot;لاتزال هناك المزيد من المزارات والمعابد في جدول الرحلة.. غدا سنكون في البر الغربي، حيث وادي الملوك، ومعبد الملكة حتشبسوت.quot;


ولمدينة ( الأقصر) طابع فريد يميزها عن جميع بقاع العالم، فهي بمثابة مخزن الحضارة المصرية، وفيها أكثر من (800) منطقة ومزار أثري، وتضم أروع ما ورثته مصر من تراث إنساني. وتمثل السياحة الثقافية في المدينة وحدها (20%) من حركة السياحة العالمية.
وبينما السياح من العوائل العراقية هائمون في حضن حضارة وادي النيل، تلح عليهم في الذاكرة حضارة سومر وأور وآشور، وكل ملامح الهوية الانسانية لعراقيين مهاجرين في مهب الحروب والنزاعات.