نعمة خالد من الاسكندرية: مثل فراشات الحقل توزعن على الأغصان، كل واحدة ترسل لحنها، فيميل العشب، وتتمايل أجسادنا، وهن ما فتئن، يغزلن من اللحن الروح.

نركض معهن ومع الغمام إلى بتهوفن، في اقتتاحية باليه برومثيوس. والفراشات يتخلقن مثل الأجاندا على ضفاف البحر، حوريات يغزلن الزبد رداء. قليل وبينما صخب الموج يملأ القاعة راح ينساب عبر جنباتنا لحن ملائكي، هدهد الموج، ورحل بأرواحنا إلى بغداد، فاستظلت النساء وإيانا بالنخيل. لم تشأ النساء اللواتي عشقن الركض مع الغمام أن تطول استراحتنا، لذا قفزن بنا إلى ما يفتق الأسئلة عبر جمل موسيقية من شأنها أن توقظ الروح والجسد في آن، حيث شتراوس هو صاحب العنان، يطلق جياد اللحن في القاعة فنتحفز لنقفز، أو ربما تسابقنا إلى الحصان الأسود الذي لا تلحقه الريح.

قائد الفرقة، الفنان رعد خلف، ربما لم يشأ أن يتركنا نستمرىء الراحة، أو نجد في الركض مع عاشقات الغمام، فراح عبر توزيعاته يرحلنا من غفوة ليقظة، ما بين عربيات موسيقية، وكلاسيكيات لتشايكوفسكي ورافييل، من ساحرة تعزَم علينا، لقطار يقطع الفيافي بنا.
ومع العربيات، سكنا في جبال لبنان، وعلى ضفاف النيل، وفي أهوار العراق.
والنساء يركضن بنا مع الغمام، من واحة لواحة. واحات ليست من نخيل وأعناب، هي واحات من اللحن، زرعتها أوتار كمنجات العازفات، وأبواقهن، ودلفن بنا البوابة العظيمة، بوابة لا خشب فيها، ولا حديد، بوابة مفتوحة على آفاق وعوالم جديدة، بوابة فبوابة، تتناسل البوابات. ربما أراد رعد، وعاشقات الغمام أن يقلن لنا: من هنا يمكن لنا أن نعبر لنكون فاعلين في التاريخ، وربما عبر موجة من لحن قالوا لنا: كيف يمكن أن نكون فاعلين في هذا التاريخ الذي استقلنا منه منذ عهود.

من خلف الغمام كان عبد الوهاب يصدح، ومن خلفه رأيت أجساداً تتمايل في رقصة فالس. وقبالتي تماماً وقف رعد خلف يوزع أزهار اللحن على عاشقات الغمام. يغمض عينيه وعصاه السحرية تلقي بأرواحنا وعقولنا في الفضاء الرحب.

لا بد تتساءلون من هن عاشقات الغمام، أو النساء اللواتي رحن يركضن مع الغمام؟
بكل بساطة هن باقة من خريجات العهد العالي للموسيقا في سورية، اجتمعن في أوركسترا نسائية شكلها الفنان رعد خلف في إطار مشروعه الموسيقي زرياب، وأطلق عليها اسم فرقة ماري.
هذه الفرقة هي التي جعلتنا نركض مع عازفاتها مع الغمام في احتفالية بمناسبة يوم المرأة العالمي، وفي إطار دمشق عاصمة للثقافة العربية.

عاشقات الغمام طرن معه إلى دبي ليرحلن بسامعين آخرين في احتفالية توزيع جوائز السلطان عويس الثقافية.
لعل وقفتي مع نساء يركضن مع الغمام لم تكن وقفة مختص بالموسيقا، يفتق جملها ويبحث عن الهارموني في جنباتها. لكن أمسية مع الفنان رعد خلف، وعاشقات الغمام قد رحلت بي حقاً إلى ناي نينوى، والموسيقا الفرعونية، وصحراء بعيدة يملأ فضاءها ذات ليل قصائد لقيس، أو لعنترة، أو للزير سالم، وربما ظننتني، إحدى الأمازونيات في غابة كثيفة وبعيدة أنبش الذئب فيَ ليعوي. أو أنسل إلى كهف عتيق في جبل عتيق، أبرد نبالي، وأصطاد غيمة، أعتليها لأرى برومثيوس وهو يبني أسطورته الخالدة، ثم أصرخ ملء الكون: هنا كنا، وهنا كنا، وهناك، وهناك. لنا ما يخلدنا، لكن ما الذي يمكن أن يكون لنا في حاضرنا. سؤال ممض ومتعب، دفعني لأمسك بساحرة رافييل وأهرب بها خارج القاعة، وعاشقات الغمام يضحكن مني، وهن يعزَمن على آلاتهن، ورعد يعزَم بعصاه ويشير لي أن أفلت من قبضة الحاضر، وأدلف بوابة الغد. فهل حقاً ثمة غد ينتظرنا؟