تراث الحكواتي يعود ليبهج مجالس الجزائريين

كامل الشيرازي من الجزائر: اختار الحكواتي ليلة ربيعية متجردة من الألوان والبهارات، ليعود مجددا إلى مجالس الجزائريين، بعدما افتقد لسنوات طويلة منذ زمن مسرح الحلقة الشهير الذي ذاع صيته في الجزائر منذ عشرينات القرن الماضي، وتحت ظلال لحظة معاصرة، رحنا نرمق احتفالية إنسان حديث يتلوى بالكتابة وللكتابة، ونتلمس دروب الموت بالبياضات والمحو والصمت الموصول بالفكر والروح والمٌنجز والجمال.

الحكواتي أو كما يُطلق عليه في الجزائر quot;القوالquot;، ركّز في أمسيات نظمتها محافظة وهران (340 كلم غرب) على إعادة رسم ملامح الحامل للثقافة الشعبية الشفوية، ورواية حكايات طفولية على منوال quot;سلم يحكى منذ الطفولةquot; وquot;القارئ الصغيرquot;، وهي تظاهرة نفخت الروح من جديد في quot;القوالquot; ليقدم عروضا مشوقة أمام جمهور أخلص منذ زمن بعيد لفن quot;الحكايةquot;، لكونها مستمدة من واقعه المعاش وتعبر عن همومه وطموحاته ومتطلباته الاجتماعية.
وفي خضم الثورة التكنولوجية التي يعرفها العالم في مجال وسائل الاتصالات منها شبكة الأنترنت والفضائيات ومختلف أوجه وتمظهرات العولمة يظهر بقوة quot;القوالquot; ليروي للجمهور حكايات كانت ترويها الجدة لأحفادها وتزرعها في قلوبهم وعقولهم قبل أن ينال النعاس من جفونهم، أيام كان quot;القوالquot; النجم الأوحد للثقافة الشعبية الجزائرية.


وعلى الرغم من التطور الحاصل في المجتمع الجزائري ومختلف مناحي الحياة المحلية، فإنّ ثلة من الشباب المولع بأدب quot;الحكواتيquot; أو quot;القوّالquot;، ممن لم يعايشوا حكواتي الزمن الماضي، يراهنون على إحياء quot;قوالquot; الألفية الماضية الذي اندثر وزال من quot;الاسواقquot;، وظل حبيس الأوراق والكتب بعد أن اقتحم الاعلام السمعي والبصري البيوت الجزائرية وانتشر بكل المناطق حتى القرى والأرياف.


ولشخصية quot;القوالquot; أو الحكواتي تاريخ عريق في الثقافة الشعبية الجزائرية عرفته جميع المدن الجزائرية باعتباره أحد أشكال التعبيرالشفهي الأكثر جمالية، وكان الحكواتي أو (المدّاح) ذلك الفنان التقليدي الأصيل بمثابة لسان حال الشعب الجزائري خلال فترة الاحتلال الفرنسي، واتخذ quot;القوالquot; وقتئذ من الأسواق فضاء خصبا لسرد حكاية مستمدة من التراث الجزائري تضفي شعورا ساحرا في نفوس السامعين القادمين من القرى والبلدات البعيدة، وكان السوق فضاء يخيم عليه ظلّ الحكواتي يأسر المتحلقين حوله، بحكايات الانتماء العريق والفكاهة الهادفة وتحديات الراهن.


وقد اتخذ هذا quot;القوالquot; من علم الكلام وصناعة حرفته مصدر رزقه يقتات منه مصداقا للمثل الشعبي الجزائري quot;معيشة القوال في لسانهquot;، وإن أفل نجم quot;القوالquot; في الجزائر خلال العشريتين الأخيرتين، حيث قضى نحبه في الأسواق نتيجة انتشار السمعي والبصري، فقد عاد الحكواتي من بعيد ولو بصفة محتشمة في المسرح، بعد أن جعل الراحلان quot;ولد عبد الرحمان كاكيquot; وquot;عبد القادر علولةquot; أسطورة ركحية حية شغلت الناس وملأت الدنيا لسنوات طويلة.
والملاحظ أنّ جمهور quot;الحكواتيquot; في الجزائر لم يعد ذلك الجمهور البسيط في بساطته، غير متكلف، إذ بات جمهور الألفية الثالثة أكثر تطلبا وأكثر تبصرا وثقافة، ما فرض على الحكواتيين أن ينتهجوا أساليب أكثر عصرية لضمان استمرارية السرد وبقاء القوال متألقا، ويرى أحد الحكواتيين الجزائريين المخضرمين، أنّ جمهور بلاده quot;لم يعد يحتمل الجلوس لساعات طويلة في انتظار نهاية الحكاية مهما كانت الأساليب التي يستعملها القوالquot;.


وإن اختلف حكواتي زمان عن حكواتي 2008، من حيث الزي التقليدي الذي كان يرتديه في السابق المعروف بطاقيته quot;التوتيةquot; وسرواله وعباءته، فإنّ الوسائل المستعملة لجلب أنظار الجمهور واحدة وتتمثل أغلبها في التشويق والديباجة المطوّلة التي يستهلها بالبسملة والصلاة على رسول الله وذكر الخلفاء الراشدين والتابعين والأولياء الصالحين والدعاء، لتعقبها الحكاية التي يستمد ابداعها من العادات والتقاليد وأشعار فطاحل الشعراء المحليين وما تكتنزه ينابيع التراث الجزائري، كما يستعين الحكواتي الجزائري بالحركة المستمرة حتى يخال للناظر كأنه يشاهد مونودراما.


ومع التطور الحاصل في سرديات المجتمع الجزائري، أصبح لكل حكواتي طريقته الخاصة في سرد الحكاية الواحدة، ما أدى إلى تعدد أضرب الحكايا وتنوعها، في حين اقتحمت بنات حواء عالم الحكواتي على طريقتها، حيث تقوم نسوة كثيرات وغالبيتهنّ شابات عصاميات بكتابة مقاطع حكائية كما هو الحال في منطقتي الشرق والجنوب، ما ساعد على إعطاء متنفس آخر للحكاية الشعبية بعد أعوام عجاف.


وبينما يقترح بعض الحكواتيين خلق ناد خاص بهم، حفاظا على هذا الموروث الشعبي من الضياع، وحتى تمدّ الجسور بين القديم والعصري بهدف اثراء منظومة الحكاية التراثية، تراهن السلطات الجزائرية أيضا على تنظيم محافل دورية يشترك فيها العديد من quot;الحكواتيينquot; من الجزائر ودول إفريقية وأخرى من حوض المتوسط، لابراز جيل جديد من quot;القوالينquot; الشباب المتشبعين بتكنولوجية المعلوماتية وجنس الحكاية، بعدما دعا مثقفون إلى حتمية إعادة بعث هذا النوع من الثقافة الشعبية والحفاظ عليه من الزوال، بينما تقول الحاكية الفرنسية كاترين جوندرين لـquot;إيلافquot; إنّ الأنترنت ساعدتها للتعرف إلى العديد من الحكواتيين العرب وحكاياهم وما تنطوي عليه من مميزات.


ضمن هذا المنظور، انبرى (القوال) ماحي مسلم صديق الذي قدم عروضا شيقة منها quot;طويل منقاره أخضرquot; والذي يرى أن الحكاية quot;مصدر من مصادر الحياة وبقاؤها مرتبط بمن يحكيهاquot;، وقد قام هذا الحكواتي الشاب بترجمة ثمانية نصوص من الفرنسية إلى اللهجة الجزائرية المحلية، على غرار حكايات quot;ماشاهو تماشهوquot; وquot;بقرة اليتامىquot; وquot;حجرة القمرةquot; وquot;الرجل الذي ينظر إلى الليلquot; وquot;مرآة الماءquot;.


الحكواتي الجزائري في هذا الزمان يحمل خوفا مشروعا على المدينة والمدنية، وبعيدا من كلاسيكية حكايات ألف ليلة وليلة وأسطورة سيف بن ذي يزن وسائر أقاصيص التراث الشعبي، فضّل الحكواتي الجزائري ارتجال قصة رجل مأسور بمواجع الحكي الشعبي الجميل، يتلوى وسط انقلابات الزمان وسرعاته المرعبة في تصنيع مكامن الأشياء، ويقف صاحبنا الذي يشبه كل واحد منا، مشدوها أمام تغليف النزعة المادية لكل ما هو جميل وطبيعي في حياة الإنسان، فلم يعد أحد يهتم بالحكي والحكايات، لأنّ الحكايات صارت على ما يبدو بليدة قديمة.. دفعت الناس للعزوف عن التاريخ، وأصبح الكل أصبح مشغولاً بالجغرافيا.