البصرة.. مدينة النخيل.. أرضها ميادين قتال مهجورة وفسائلها مهربة من إيران


البصرة:

quot;شربنا ماء دجلة خير ماء وزرنا أشرف الشجر النخيلاquot;

هكذا وصف أبو العلاء المعري العراق يوما ما، وما زال صدى قصيدته يتردد في quot;أرض السوادquot; شاهداً على نخيلها وقيمته الجمالية والإنسانية. وليس بعيداً عن المعري وقف محمد مهدي الجواهري مرة وهتف:

quot;سلام على هضبات العراق وشطيه والجرف والمنحنى
على النخل ذي السعفات الطوال على سيد الشجر المقتنى
على الرطب الغض إذ يجتلى كوشي العروس وإذ يجتنىquot;

عروس النخيل كانت البصرة، غابة كثيفة من الخضرة المتوجة بالذهب وظلالها الوارفة وأنهارها الوفيرة.

وتعاني البصرة اليوم من صفرة أراضيها وشحوب غاباتها وتحول أجزاء كبيرة منها إلى ميادين قتال وحقول ألغام مهجورة، عقب سنوات من الحروب والإهمال، تفشت فيها الآفات الزراعية، وتفاقمت ظاهرة التصحر وزحفت الكثبان الرملية.

وتذكر إحصائية رسمية عراقية أن quot;أكثر من ثلاثين مليون نخلة هلكت في العقدين الماضيين. وبعد أن كانت البصرة تشتهر، عالميا،ً بإنتاج وتصدير أجود أصناف التمور، فهي اليوم تستورد فسائل النخيل من دول الجوار لتغطية الاستهلاك المحلي.

quot;مقبرة جماعية للنخيلquot; هكذا يصف مدير زراعة البصرة، بالوكالة، جمعة خضير في حديثه لـquot;نيوزماتيكquot; الوضع في المدينة.

ويؤكد خضير اختفاء بعض فصائل النخيل النادرة، خلال السنوات القليلة الماضية، ما دفع مديرية الزراعة إلى إنشاء مركز بحث لتكاثر quot;أمهات النخيلquot; بهدف حماية الفصائل المهددة بالانقراض في ظل عزوف الكثير من المزارعين عن زراعة أشجار النخيل، وانصرافهم إلى زراعة أشجار السدر وبعض المحاصيل الموسمية من الخضروات التي تتطلب عناية محدودة.

ويقول خضير لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;إنعاش زراعة النخيل في البصرة يتطلب عقوداً من الزمنquot;، ويرى أن quot;جانباً من الحل يكمن في تطهير الأراضي الزراعية من الألغام والأسلاك الشائكة واعتماد أسلوب الزراعة النسيجية في عملية التكاثرquot;.

ويضيف مدير زراعة البصرة، بالوكالة أن quot;مديرية الزراعة تقدم بين الحين والآخر تسهيلات إلى المزارعين لتشجيعهم على زراعة النخيل منها تجهيزهم بالفسائل ومبيدات الآفات الزراعية، وتنفيذ مشاريع الري ذات المنفعة العامة، وإقامة الندوات الإرشاديةquot;.

لكنه يعترف quot;بعدم تجاوب المزارعين مع تلك التسهيلات لأنها محدودةquot;، ويقول quot;أغلب المزارعين لا يقدم لنا الشكر على ما نوفره من مساعدات لأنهم بحاجة حقيقية إلى أضعاف ما نقدمه لهمquot;.

ويقول المزارع عبد الله ناصر، 52 سنة، في حديث لـquot;نيوزماتيكquot; إنه quot;فقد 223 نخلة خلال العامين الماضيين بسبب إصابتها بمرض حفارات النخيل الذي استشرى، مؤخراً، في المناطق الزراعية المحاذية لضفتي شط العربquot;، مشيراً إلى أن وضعه الاقتصادي quot;لا يسمح له بشراء المبيدات الزراعية من الأسواق المحليةquot;.

ويضيف عبد الله quot;كل أشجار النخيل، في الأرض التي أملكها، مصابة بهذا المرض، ونداءات الاستغاثة، التي وجهتها إلى مديرية الزراعة، لم تجدِ نفعاًquot;.

ويتهم ناصر الحكومة المحلية بالتقصير بحق المزراعين وعدم الاكتراث بما آلت إليه أشجار النخيل من تدهور في مدينة تطلق عليها الحكومة اسم quot;مدينة النخيلquot;، ويقول quot;كان الأجدر بالحكومة المحلية أن تحيي النخيل قبل أن تتخذه شعارا لهاًquot;.

ويذكر المزارع صادق إبراهيم، 63 سنة، أن نصف مساحة أرضه غير مستغلة، لارتفاع نسبة ملوحة التربة، وخسارته الفادحة بسبب تفشي الآفات الزراعية، ويعتبر أن quot;التغييرات المناخية التي طرأت على بيئة البصرة خلال الأعوام الماضية أدت إلى تعثر زراعة النخيل بالطرق التقليديةquot;.

ويضيف إبراهيم في حديثه لـquot;نيوزماتيكquot; quot;نلاحظ اليوم وجود اختلال في ظاهرة المد والجزر، فضلاً عن انخفاض منسوب مياه الأنهار، وهذا يؤدي إلى ترسب الأملاح وبالتالي إعاقة نمو أشجار النخيلquot;.

ويشتكي إبراهيم من ارتفاع أسعار المبيدات المستوردة، وغلاء فسائل النخيل في المشاتل، ويقول إن quot;مزارعين يلجأون إلى شراء فسائل البرحي المهربة من إيران، عبر شط العرب، لانخفاض ثمنها، مقارنة بالفسائل المحلية؛ التي تتراوح أسعارها ما بين 50 إلى 150 ألف دينارquot;.

ويصف المزارع صادق إبراهيم أرضه خلال سبعينيات القرن الماضي quot;بالغابة الكثيفة من النخيل الباسق، لكنها اليوم حقول شوهتها الحروب ومزقها الإهمال وتحولت إلى أرض مليئة بالأشواك تحيط بها بعض أشجار النخيل المحدودبة بفعل quot;حفارات النخيلquot; ومن أبرزها حشرة quot;الحميرةquot; التي لا تكاد تعشش في جذوع وسعف النخيل حتى تنخرها تماماquot;.

وتعد بساتين النخيل المحاذية لضفتي شط العرب من أكثر المناطق التي تعرضت إلى الضرر بعد أن أصبحت مسرحاً للعمليات العسكرية طيلة سنوات الحرب العراقية الإيرانية 1980-1988 وما رافق ذلك من عمليات تجريف للأراضي الزراعية الخصبة وتشريد المزارعين منها.

ومع انتهاء الحرب عاد غالبية المزارعين إلى بساتينهم التي صارت شبه خالية من أشجار النخيل، وحلت محلها المراصد والسواتر الترابية والخنادق المحاطة بحقول الألغام، فيما كانت بساتين النخيل الواقعة في المناطق الغربية من المحافظة أقل ضرراً من دمار الحروب، لكن المزارعين فيها يعانون من مشاكل أخرى؛ أبرزها استفحال ظاهرة التصحر وزحف الرمال.

ويقول المزارع عبد الرحيم ناصر، 39 سنة، في حديث لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;أشجار النخيل لا تستطيع مقاومة التصحر وجفاف التربة، بالرغم من كونها تستطيع التكيف مع المناخات الحارةquot;.

ويضيف أنه استطاع أن يحافظ على أشجار النخيل في أرضه لكن دون أن يتمكن من غرس فسائل أخرى، بعد أن حاول العام الماضي وباءت تجربته بالفشل، الأمر الذي لن يكرره ثانية.

وبرغم تراجع زراعة النخيل، بشكل عام، وانحسارها في مناطق، دون أخرى، ما زال سكان البصرة ينظرون إلى النخيل باعتباره قيمة اقتصادية وجمالية عظيمة. ففي سوق العقارات يباع البيت الذي يحتوي على نخلة مثمرة بسعر مرتفع مقارنة بالبيت الذي يحمل نفس المواصفات لكن من دون نخلة.

النخيل ارتبط في أذهان سكان البصرة بالخير والعطاء، وثمة الكثير من الحكايات التي أفرزها الموروث الشعبي تؤكد على أهمية أشجار النخيل وضرورة العناية بها. هنا يلتقي ابن النخيل بدر شاكر السياب مع المعري والجواهري وينادي:

quot;عيناك غابتا نخيل ساعة السحرquot;.

وكالة نيوزماتيك