قلعة ريفية شاهدة على ملحمة شيوخ الجبال في فلسطين

أسامة العيسة من القدس: في الطريق إلى قرية راس كركر، غرب رام الله، تلوح من بعيد قلعة آل سمحان، على قمة جبل، وهي التي يطلق عليها السكان العلالي أو علالي سمحان وهي جمع علية وتعني، بالمفهوم الفلسطيني المحلي، وحدة معمارية تدل على مكانة صاحبها الاجتماعية، وتكتسب صفة العلالي مصداقية أيضا لموقع القلعة العالي المرتفع المطل على القرى المجاورة، وعلى أفق الساحل الفلسطيني، فتعيد الاعتبار لجغرافيا فلسطين الحقيقية التي مزقتها الاحتلالات والحروب والتقسيمات، وتفيد في فهم لماذا كان الموقع أحد ما يسمى قرى الكراسي، ومركز أحد معاقل شيوخ الجبال الفلسطينيين المتمردين الذين شكلوا قوة حتى أواخر القرن التاسع عشر، عندما تمكنت الحكومة العثمانية من توجيه ضربة قاصمة لهم، وأنهت بذلك، وبشكل مأساوي، تاريخا شديد الغنى والدرامية، بقيت شاهدة عليه عدة قلاع في الريف الفلسطيني، منها قلعة آل سمحان.

واعتبرت القرية التي كانت تسمى إلى عهد قريب (راس ابن سمحان) مركز آل سمحان، زعماء حزب قيس في جبال القدس، الذين خاضوا صراعا وتحالفات مع بقايا شيوخ قرى الكراسي على امتداد الهضبة الفلسطينية الوسطى، التي تسمى الان الضفة الغربية، وتضم جبال نابلس، والقدس، والخليل.
وانقسم شيوخ قرى الكراسي، إلى حزبي قيس ويمن، وهو تقسيم شهدته فلسطين في القرن التاسع عشر، على أساس المزاعم حول الأصول القبلية لسكان فلسطين العرب، وضم كل حزب، وفقا لهذا التقسيم الغريب مسلمين، ومسيحيين، ودروز، وبدو، وشركس، وتركمان.

وبالنسبة لال سمحان، فانهم تزعموا حزب قيس وساد نفوذهم في الجزء الشمالي من جبل القدس الذي كان يضم بني حارث، وبني زيد، وبني حمار، وبني مرة.

وشكل شيوخ الجبال ظاهرة هامة في تاريخ فلسطين، وكانت اشهر مراكزهم في قرية صانور (مركز آل جرار)، وعرابة (مركز آل عبد الهادي)، ودير غسانة (البرغوثي)، وقرية العنب (أبو غوش)..الخ.
وكان لهم دورا بارزا، في الصراع الفلسطيني الداخلي، والإقليمي، وحتى الدولي، وارتبطوا بعلاقات معينة مع لاعبين عالمين بارزين مثل بريطانيا وفرنسا، وامتد نفوذ بعضهم إلى مناطق آخر من بلاد الشام، وبعضهم ثار ضد إبراهيم باشا في أثناء حملته على بلاد الشام، والبعض الآخر تحالف معه.
وخاض هؤلاء صراعا قاسيا فيما بينهم واتخذ أشكالا عديدة على النفوذ، وتعرضوا للنفي والقتل، وبرزوا خلال الحرب الأهلية الطاحنة بين حزبي يمن وقيس.

وتكتسب القلعة أهمية لأنها أحد قلاع قرى الكراسي، القليلة التي بقيت في حالة جيدة نسبيا تشهد على جزء هام من التاريخ لفلسطيني في القرنين الثامن والتاسع عشر، وهو تاريخ لم يحظ باهتمام خصوصا من قبل الباحثين الفلسطينيين، وان كان تخصص به العديد من المستشرقين الجدد مثل الألماني الكسندر شولتس، الذي توفى مبكرا، وكان ذلك خسارة للدراسات الفلسطينية، وظلت دراساته عن ما اسماها التحولات الجذرية في فلسطين في القرن الثامن والتاسع عشر، ملهما ومرجعا لباحثين آخرين.

وفي عام 1981 زار المستشرق الألماني القلعة وكتب متأثرا مما رآه، وقدم تفسيرا لاسم راس كركر ومما كتبه شولتس quot;ما زال برج راس كركر، وقد زرته عام 1981، يترك انطباعا عميقا في النفس حتى الان، ويحكى في القرية أن كلمة كركر تشير برنينها إلى صوت الحجارة التي كانوا يجعلونها تكرّ إلى اسفل على المنحدر الصخري ضد الأعداء المهاجمينquot;.

وهو تفسير يعتبر اظرف بكثير من تفسير طرحه المؤرخ الفلسطيني مصطفى مراد الدباغ في موسوعته (بلادنا فلسطين)، حيث كتب الدباغ quot;كركر بمعنى أعاد الشيء مرة بعد أخرى. وكركر الرحى بمعنى أدارها. وكركر الضحك: اغرق، وتكركر الماء: تراجع سيله. والكركر طائر مائيquot;.

ولكن على الأغلب فان شولتس، والدباغ جانبهما الصواب في تفسير اسم القرية، التي كان اسمها راس ابن سمحان، حتى أربعينات القرن الماضي، عندما غير البريطانيون الاسم وأطلقوا عليها اسم راس كركر، وهو اسم الجبل المقامة عليه القرية.

راس كركر أو راس ابن سمحان، كانت مركز بني حارث، التي بلغ عدد قراها 18 قرية، وهي إحدى نواحي جبال القدس، كما كانت تعتبر، ولكنها الان إحدى قرى محافظة رام الله.

وارتبطت القرية باسم الشيخ إسماعيل سمحان (1818-1834م) الذي كان من ضمن شيوخ الجبال الذين أعلنوا التمرد على إبراهيم باشا عام 1834، في مغامرته الشامية الطموحة، وحاربهم القائد المصري، واسماهم الأشقياء، واعتبر الشيخ إسماعيل أحد أهم قادة التمرد، وحكم عليه بالإعدام، والحكايات المرتبطة باسمه ما زالت تتردد في القرية بين السكان، ويرجع صداها الجبال المحيطة التي أقيمت عليها مستوطنات يهودية.

ولكن الدباغ يورد معلومة مناقضة لذلك قائلا عن القرية وزعيمها quot;يقال لقرية راس كركر أيضا راس ابن سمحان، نسبة إلى آل سمحان من شيوخ القيس في جبال القدس الذين اتخذوا القرية هذه مقرا لهم في القرن الماضي، وقد عرفنا من زعمائهم الشيخ إسماعيل سمحان الذي أعلن ولائه للمصريين هو والشيخ ملحم اللحام والشيخ إبراهيم أبو غوش يوم استيلائهم على البلاد عام 1247هـ. ووصفت المحفوظات الملكية المصرية 1-189 أبا غوش والسمحان بأنهما كبار مشايخ جبل القدسquot;.

وعلى الأرجح فان الدباغ استنتج من الوصف الذي قدمه المصريون لابن سمحان انه أحد quot;كبار مشايخ القدسquot; انه دعم إبراهيم باشا، وهو غير صحيح، وليس هناك ما يؤكد انه غير رأيه وترك التمرد، لانه توفي في ظروف إشكالية، في نفس العام الذي أعلن التمرد فيه.

وينطبق حديث الدباغ على آل أبو غوش بشكل نسبي، الذين تمردوا في البداية على إبراهيم باشا، ثم تحالفوا معه، وكافأهم، بأكثر مما توقعوا، حيث تم تعيين الشيخ جبر أبو غوش (شقيق الشيخ إبراهيم)، حاكما للواء القدس، وضم لنفوذهم، المناطق التابعة لال سمحان، انتقاما من موقف الشيخ إسماعيل سمحان المناهض لإبراهيم باشا.

وبخلاف الدباغ، فان من أرخوا لتلك المرحلة (مثل إحسان النمر، وسعاد العامري، والكسندر شولش) يتحدثون بالتفصيل عن دور إسماعيل بن سمحان المحوري في الاجتماع الذي عقد في قرية بيت وزن عام 1834، وتم فيه إعلان التمرد على إبراهيم باشا، الذي أعلن الحرب عليهم واسماهم بالأشقياء وتقول الدكتورة سعاد العامري quot;تظهر كلمة الأشقياء بجميع البيانات الصادرة من إبراهيم باشا ضدهمquot;، وتقصد شيوخ الجبال المتمردين، الذين انتهى تمردهم بشكل دموي، حيث لاحقهم إبراهيم باشا وقتل بعضهم حتى في دمشق، كما حدث مع الشيخ قاسم الاحمد وأبنائه.

واختلف موقف حسين سمحان، ابن شقيق الشيخ إسماعيل، الذي تولى مكان عمه بعد مقتله، وهادن إبراهيم باشا، وما لبث، عام 1840 وبعد ضعف الحكم المصري، أن تحالف مع العثمانيين ضد الباشا المصري ابن محمد علي، الوالي الطموح.
وهذا التاريخ المثير لشيوخ الجبال، لم يبق شاهدا عليه سوى بعض القلاع ومن بينها قلعة آل سمحان، وهي مكونة من أربعة طوابق، بنيت في القرن الثامن عشر، مع الترجيح انه تم إضافة الكثير لها فيما بعد، وهي تقع على جبل يرتفع 650 مترا عن سطح البحر، ويطل الان على فلسطين المحتلة عام 1948.

وتضم القلعة احواشا، وسراديب، وساحات سماوية (مفتوحة)، وغرفا للحرس، ومسجدا، وغرف وبنايات تحيط بالاحواش، سكنها أهل القرية، الذين هجروا القلعة الان، وتمددوا في البناء خارجها.
ومن أهم مرافق القلعة، الطابق العلوي، خصوصا ما يعرف بعلية الشيخ، التي كان يستقبل فيها الشيخ ضيوفه، وتوجد أمام هذه العلية، ما يعتبر ترتيبات أمنية، مثل مسرب سري من الأعلى للأسفل، لسحب الماء أو الطعام أو الذخيرة، وفتحات كاشفة في الجدران، للاستطلاع، وكان يصب منها الزيت الحار على المهاجمين.

وفي القلعة أيضا آبار، وافران، ومخازن، تعاني جميعها الان من الإهمال، ومن تراكم النفايات في بعض أجزائها، وللقلعة عدة مداخل، وعلى الأرجح فان لكل مدخل استخدام معين، خضع للترتيبات الأمنية، وتوجد عدة نقوش على الجدران من أهمها ما نقش على المدخل الرئيس، بلغة مسجوعة هي خليط بين العامية والفصحى، تشير إلى أصول آل سمحان المصرية.

وتشكل قلعة آل سمحان الان، رمزا لملحمة الريف الفلسطيني في جبال فلسطين الوسطى، في مرحلة شديدة الثراء، والتي لم ترو بشكل كامل، وربما تحتاج إلى زوايا نظر مختلفة، للإحاطة بجوانب الملحمة المؤثرة.

الصور بعدسة إيلاف