المساجد البيروتية لا تزال تلعب دورها البارز
مسجد الامير منذر.. صلاة تنبعث من رائحة التاريخ

ريما زهار من بيروت: كان المسجد او الجامع فيما مضى من الزمان وحتى عهد قريب، ولا يزال يقوم بدور بارز في الحياة الإجتماعية للمسلمين في لبنان، ولم يحد المسلمون البيروتيون عن هذه القاعدة، فلقد كانت مساجدهم تؤدي الدور نفسه بالنسبة إليهم، فلا تكاد تمر مناسبة إجتماعية أو موسم ديني إلا ونجدهم يتخذون من المسجد محورًا لهم، فيقصدونه ويتجمعون فيه وينطلقون منه. ومن عادة أهل بيروت قي التعبير عن فرحتهم إضاءة مساجدهم من مساء يوم الخميس إلى فجر يوم الجمعة، وكذلك في ليلة الإثنين من كل أسبوع، وفي جميع ليالي شهر رمضان المبارك، كما يفعلون مثل ذلك أيضا ليلة النصف من شعبان، وليلة غرّة شهر رجب، وطوال أيام عيدي الفطر السعيد والأضحى المبارك. وإذا أرادوا استقبال او توديع عزيز لديهم والسلام عليه توافدوا إلى المسجد وانتظروه فيه وودّعوه فيه أيضا. فالمسجد هو المكان المختار للتعبير عن أفراحهم وأتراحهم في آن واحد.

درج المسجد

وإذا أصابهم فرح أو ترح هرعوا إليه، بل كان المسجد وما يزال المعبّر عن تطلعات ومطالب المسلمين الإجتماعية والإقتصادية والتربوية والسياسية، ومن المساجد اللافتة للنظر في وسط بيروت جامع الامير منذر او النافورة بناه الامير منذر بن سليمان التنوخي عام 1620 وتوفي عام 1933، وذلك في عهد الامير فخر الدين الثاني المعني، ومن اهم منشآت الامير منذر، بالاضافة الى هذا الجامع، القصر الذي اقامه في بلدة عبيه عام 1623، أطلق على جامع الامير منذر اسم جامع النافورة لوجود نوفرة في صحنه، وقد اشارت سجلات المحكمة الشرعية في بيروت الى تسمية ثالثة للمسجد الجامع غير شائعة كثيرًا، وهو اسم جامع القهوة لوجود مقهى بقربه، وقد جاء في إحدى الوثائق، جامع الامير منذر المعروف بجامع القهوة العامرة بذكر الله تعالى.
يقع جامع الامير منذر في وسط بيروت غربي الجامع العمري الكبير، إزاء باب ادريس وسوق الطويلة سابقًا، له بابان، باب من الجهة الشرقية ويطل على سوق البازركان سابقًا، وباب ثان من الجهة الغربية ويطل على سوق المنجدين وهو ما يعرف اليوم بشارع المصارف، وكان يوجد عند مدخله سبيل تندفق منه المياه بواسطة نوفرة مصنوعة من الحجر المرمر، وكان موقع السبيل عند المدخل الشرقي للجامع، بينما يقع الحد الغربي للجامع في المحلة المعروفة بسوق المنجدين او شارع الامير فخر الدين.

حديقة الجامع

والحقيقة فان هذا الجامع، وعلى غرار اكثر الجوامع الاسلامية، دفن فيه بعض الامراء والقادة، فقد دفن في شمال بابه الامير منذر التنوخي، باني الجامع إثر مقتله خلال مذبحة العام 1633، غير ان ضريحه هدم نحو عام 1860، كما دفن فيه الامير ملحم حيدر الشهابي 1762، واخوه الامير منصور حيدر الشهابي 1776، وقد دثرت هذه الاضرحة ولم يعد لها من اثر، كما لم يعد من اثر للسبيل.

كان لهذا الجامع المئات من الاوقاف المتضمنة المحلات والاراضي والاحكار لينفق ريعها على وجوه الجامع. ومسجد الامير منذر كسائر المساجد في بيروت ليست على نسق واحد في مظهرها، لا سيما من ناحية شكلها وهندسة بنائها، بل إنها تبدو مختلفة في المظهر، وذلك تبعا للعهود والدول التي تعاقبت على المدينة، منذ الفتح الأول قبل أربعة عشر قرنًا حتى يومنا هذا، لكن باستثناء الجامع العمري الكبير ومسجد حنتوس quot;الأوزاعيquot;، فإننا نجد أن معظم مساجد بيروت هي تنتمي إلى العهد العثماني، لذلك نلاحظ على أكثرها مسحة واضحة من أسلوب البناء الذي يجمع بين الطراز المملوكي في آخر عهده. وهي في الغالب متأثرة بالطابع التقليدي البسيط.

باب الجامع الاثري

ومسجد الامير منذر كسائر المساجد في بيروت مؤلف مما يلي:
1. القـبّـة: بناء دائري المسقط، مقعر من الداخل، مقبب من الخارج، يتألف من دوران قوس على محور عمودي ليصبح نصف كرة تقريبًا، تقام فوق السطح أو ترتفع على رقبة مضلعة أو دائرية أو على حنايا ركنية، أو مثلثات كروية، أو مقرنصات.
2. المحــراب: هو الحنية المجوّفة التي تكون في حائط المسجد لجهة القبلة، وهو مخصص لإمام الجماعة أثناء الصلاة. ويحتل المحراب عادة وسط جدار القبلة.
3. المنــبر: وهو على يمين المحراب. يقف عليه الخطيب ليخطب بالمصلين ويصعد عليه بدرجات يختلف عددها من منبر إلى آخر بين ثلاث إلى تسع درجات.
وكانت منابر المساجد البيروتية تصنع من الخشب المزخرف بالنقوش والمزين بالرسوم العربية، كما كانت بعض هذه المنابر من النوع النقال. وقد زالت المنابر الخشبية النقالة، وحلت محلها المنابر المثبتة المبنية بالحجر العادي أو بالرخام الأبيض.

وقد جرت عادة أهل بيروت، مثل غيرهم من المسلمين على وضع السنجق على طرفي المنبر من الجهة العليا، وهو عبارة عن علم كبير مصنوع من الدمقس ذي اللون الأخضر أو الأحمر، وعليه بعض الآيات القرآنية المطرزة بالخيوط الحريرية الصفراء، وغالبا ما يكون مكتوبا عليه كلمة التوحيد، أي (أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله)، و(بسم الله الرحمن الرحيم)، و(إنا فتحنا لك فتحا مبينا)، و(نصر من الله وفتح قريب) وما شابه ذلك من الآيات الكريمة التي توحي بالتفاؤل والأمل. كان أهل بيروت إلى عهد قريب، يضعون عند باب المنبر سيفًا عربيًا يحمله عادة خطيب الجمعة والعيدين، ويعتمد عليه أثناء إلقاء خطبته.

جذع شجرة في حديقة المسجد

4.السّــدة: هي شرفة في آخر المسجد بمقابل المنبر والمحراب، وهي عبارة عن سقفية مصنوعة من الخشب يقف فيها المؤذن عندما يرفع الأذان الثاني بين يدي الخطيب، وقد استغني عنها اليوم، وأصبح المؤذن يرفع أذانه بين يدي خطيب الجمعة أمام المنبر مباشرة، وتستعمل كمصلى للنساء.
5. الصحــن: وهو يقع عادة في الجهة الشمالية المتصلة بالمصلّى، وهو فسحة رحبة متسعة، يطلق عليها اسم quot;صحن الجامعquot;. وكانت صحون المساجد البيروتية في الماضي مكشوفة لا سقف لها، وتحتوي على صُـفتين من اليمين والشمال، وهما عبارة عن مصاطب مرتفعة قليلًا عن أرض الصحن.
6. الرواق: الأجنحة التي تحاذي جنبات صحن المسجد وهي بناء يضاف إلى جوانب المسجد مما يلي صحنه.
7. حوض الوضــوء: كان قديمًا في وسط الصحن يوجد حوض ماء جار (أو نافورة) يتوضأ منه المصلون، وذلك قبل أن تنتشر عادة استعمال الصنابير المعدنية (الحنفيات). أما اليوم فإنه لم يعد في أي من هذه المساجد مثل هذا الحوض باستثناء نوفرة مسجد الأمير منذر.
8. المئذنــة: تتميز كثيرا بأشكالها الهندسية، وكانت وفقًا للأسلوب الهندسي الشامي المتبع في بناء المآذن. ترتفع فيها مسافات مختلفة بشكل دائري اسطواني، وتعلوها قبة مخروطية الشكل، يرتفع فوق قمتها عمود حديدي صغير رفع فوقه هلال حديدي أو لفظ الجلالة.

نافذة اثرية للجامع

وكان من عادة أهل بيروت رفع راية حمراء مصنوعة من الجلد بأعلى المئذنة، وذلك عند كل أذان، مكتوب عليها بالقماش الأبيض (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
9. ملحقات المسجد: كانت بعض المساجد مؤلفة من طبقات عدة، بحيث تكون الطبقة الأولى فوق الأرضية منه مسجدًا، فيما تتحول الطبقات العليا إلى مكتبات ومدارس ملحقة بكل مسجد أو بالقرب منه،
أما في حالة ضيق المساحة، فيقسم المسجد إلى طبقتين: عليا ودنيا، وتخصص كل منهما لفئة من المصلين، كالنساء أو الرجال.
وفي العهود القديمة كانت تلحق بطرف كل مسجد حجرة مخصصة للسلاطين أو للأمراء أو للحكام، وهذا التطور في الهندسة الدينية إنما جاء نتيجة لمتطلبات الأمن، لا سيما بعد اغتيال عدد من الخلفاء والسلاطين على مر العصور.

* تصوير ريما زهار