محمد الكاظم من الناصرية: تعرف الكثير من المدن في العراق بالأزياء التي يرتديها ساكنوها، ويعرف رجالها بنوعية ملابسهم وأشكالها التي تصبح زيا تقليديا لهم مع مرور الوقت. ففي محافظة ذي قار، مركزها مدينة الناصرية 380 كم جنوب بغداد، يتكون الزي التقليدي للرجال من العقال وغطاء الرأس quot;الشماغquot; أو الكوفية، والدشداشة، والصاية وهناك من يطلق عليها اسم quot;الزبونquot; ثم العباءة. لكن لم يحظ أي جزء من أجزاء الزي التقليدي العراقي بما يحظى به العقال من احترام وتقدير. ولذلك حفلت الكثير من الأغاني باسم العقال، وفي اللهجة العراقية quot;العكالquot;. وتقول كلمات أغنية قديمة:

quot;متغاوي وعكالك مرعز وحزامك فضة مطرزquot;


سر الحبل الذي تحول الى رمز

تطور العقال عبر الزمن من كونه مجرد حبل تعقل به الناقة، أي تربط به، كي لا تتحرك من مكانها، الى رمز يفخر به سكان مناطق واسعة من العراق والخليج وبلاد الشام. فتعددت أنواعه واختلفت أشكاله عبر السنين لكنه لايزال يمثل قيما خاصة عند المهتمين به كالكبرياء والكرامة. فسقوط العقال حسب الأعراف العشائرية يعني سقوطا لتلك القيم.

يحدث أحيانا أن يتدافع رجلان نتيجة شجار أو ما شابه فيسقط عقال أحدهما، فتحدث عند ذلك مشكلة كبيرة، إذ يضطر الذي أسقط العقال الى دفع تعويض مادي أو معنوي لأن التقاليد السائدة تعتبر سقوط العقال من الرأس إهانة.

سمير صبار، بائع ثياب رجالية يقول لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;البدو في الصحراء يستخدمون حبلا دائريا صغيرا في ربط قوائم الناقة لتظل واقفة في مكانها أثناء الرعي، وكان هذا الحبل يسمى عقالا لأنه يعقل الناقة، وحين يسير البدوي يضع الحبل على رأسه كي لا يضيع منه لأنه بحاجة دائمة له. وشيئا شيئا اكتشف البدو أن العقال يثبت غطاء الرأس وأخذوا يرتدونه باستمرار فتطور حتى وصل الى الشكل الحاليquot;.

أبو محمد، أشهر من يصنع العقال في مدينة الشطرة، نحو 50 كم شمال الناصرية، يقول لـquot;نيوزماتيكquot; إن quot;العقال يصنع من الصوف المغزول يدويا، فالصوف يغزل ويصبغ ويمر بعمليات كثيرة حتى يصل الى مرحلة لف العقال وهي عملية متعبة ومعقدة تتم بواسطة اليد وآلة بسيطة هي خشبة ومطرقة. وأحيانا نستعين ببعض الغزول المستوردة لنقوم نحن بلفها يدويا، والنوع الذي يفضله كبار السن هو المصنوع يدويا مئة بالمئة quot;.

وللعقال أنواع وأحجام، وتبعا لها تتغير الأسماء بحسب أبو محمد، فهناك عقال حب اللؤلؤ، وعقال الصوف، وعقال الوبر، والمرعز، وعقال المخمل، وعقال الشطفة، وغيرها. والاختلاف بين هذه الأنواع هو طريقة اللف والمواد الداخلة في صناعة العقال، وبعض هذه الأنواع لم يعد مستعملا اليوم خاصة عقال الشطفة المربع الذي كان مستخدما قبل أكثر من مئة سنة وارتداه ملوك السعودية، وملك العراق فيصل الأول.

ويشرح أبو محمد لـquot;نيوزماتيكquot; طريقة صنع العقال فيقول إنه quot;كمية كبيرة من الخيوط تجمع على شكل حبل لتعطي العقال المرونة اللازمة، تلف بخيوط ناعمة سوداء، وقد تزين بخيوط أخرى لامعة، وطريقة لف هذه الخيوط السوداء هي التي تعطي للعقال أسمه وتحدد نوعيتهquot;.

الحاج جاسم كاظم، 60 سنة، يرى أن quot;العقال ليس رمزا للتقاليد العشائرية الأصيلة فقط، إنما هو هوية لمرتديه أيضاquot;. ويضيف quot;أنا أستطيع أن اعرف مدينة الرجل من العقال الذي يرتديه quot;.

ويوضح الحاج كاظم إن quot;سكان الديوانية ومحافظات الوسط يميلون لارتداء عقال صوفي صغير نسبيا يسمى الربع، وسكان الناصرية يرتدون عقالا يكون قطره أكثر اتساعا يسمى النص، وسكان العمارة يرتدون عقالا أكثر سمكا، أما سكان الزبير فيرتدون عقالا رفيعا جدا، والدليم وسكان المناطق الغربية من العراق يرتدون عقالا رفيعا مع الغترة، وهي الكوفية البيضاء غير المنقطة.

العقال في العرف العشائري

ويروي خشان مطلق، 55 سنة، لـquot;نيوزماتيكquot; أن quot;العقال مرتبط بالتقاليد العشائرية، فعند موت احد الأشخاص لا يرتدي أشقاؤه العقال طوال أيام مجلس العزاء، تعبيرا عن الحزن على فقيدهمquot;.

ويضيف خشان quot;في التقاليد العشائرية لا يرتدي العقال الرجل الذي تقوم أبنته أو أخته بفعل يسئ الى سمعة العائلة، لكنه يعود الى ارتدائه بعد قتل الفتاه من قبل احد أفراد العائلة غسلا للعار. لذلك يصر الرجل بعد مقتل الفتاة على أن يراه الجميع وهو مرتد عقاله، فيفهموا إنه غسل عاره وأنه عاد ليكون جديرا بالاحترامquot;.

ويقول علوان محمد، 50 سنة إن quot;الأب لم يكن يضرب أولاده بالعصي لتأديبهم إذا ما أخطأوا، فالعصي للحيوان، بل يضربهم بالعقال لتأديبهم وعدم إذلالهم في الوقت نفسهquot;.

ويضيف محمد أن quot;إمالة العقال الى مقدمة الرأس كان دلالة على الحزن أو وقوع أمر جلل، فهو يشبه تنكيس الدول لأعلامها عند موت أحد الأشخاص البارزين. وتعد إمالة العقال الى الخلف بدرجة كبيرة دلالة على الكبرياء وقوة التحمل، أما إمالته الى احد الجانبين فتشير إلى التهور والاعتداد بالنفسquot;.

ويروي علوان محمد أن quot;العقال الذي لا يجوز سقوطه على الأرض، ويمكن أن يسقطه صاحبه أمام شخص وجيه عندما يطلب منه حاجة مهمة، ومعنى هذه الحركة إن كرامتي بين يديك وتستطيع أن تردها لي بتلبيتك طلبي. وفي العادة يقوم الشخص الآخر بحمل عقال الرجل وإعادته الى رأسه في أشارة الى أن كرامتك محفوظة وطلبك مجابquot;.

الرمز في الصين

أبو عبد الله، بائع ملابس رجالية في الناصرية، يقول إن quot;العقال المصنوع يدويا في طريقه الى الانقراض، فقد كان هناك العشرات من صناع العقال في المدينة أما الآن فلم يبق فيها سوى محل واحد أو محلين صغيرين. ويعود السبب الى منافسة العقال الجاهز الذي سيطر على الأسواق، العقال الذي يأتي من السعودية أو الكويت أو الصينquot;.

تصورنا أن أبو عبد الله يبالغ عندما تحدث عن العقال الصيني فنحن لم نسمع بوجود عشائر في الصين كما هي الحال عندنا، ولم نسمع بوجود آل بو تشن تشاو كما يوجد عندنا آل بو محمد وآل بو دراج، فنقلنا تساؤلنا الى سجاد يحيى، 35 سنة، بائع ملابس رجالية، فيقول quot;نعم، هناك عقال مصنوع في الصين، وهناك عقال مصنوع في بريطانيا، فتجار الخليج يعطون التصاميم للمصنعين الأجانب فيصنعون العقال حسب المواصفات، وتلك الصناعة أرخص من صناعة البلدان العربية، فأسواق العراق تستورد العقال من الكويت أو السعودية أو دبي، وهم يصنعونه في الصينquot;. ويضيف يحيى quot;أغلى الأنواع هو المصنوع في بريطانيا، ولذا فهو غير مرغوب بالنسبة لناquot;.

وعن الإقبال على شراء العقال يقول يحيى إن quot;الطلب جيد، ويميل الكثيرون الى الشكل التقليدي للعقال ولا يحبون الصرعات، لكن على العموم الشباب يفضلون أنواعا من العقال غير التي يفضلها كبار السنquot;.

ويتابع يحيى أن الكثير من الرجال الذين لا يتردون العقال، أي ما يطلق عليهم quot;الأفنديةquot; يشترون العقال ويحتفظون به للطوارئ، أي للمناسبات، ففي مناسبات الأعراس ومجالس العزاء وغيرها يحترم الأشخاص الذين يرتدون العقال أكثر من غيرهم.

وفي القرى المحيطة بمدينة الناصرية ينظر للرجل على أنه شاب صغير غير مؤهل لتحمل المسؤولية حتى يرتدي العقال عندها يعد رجلا حتى لو تجاوز الخمسين من العمر. ورغم كل شيء يبقى العقال واحدا من الرموز التي يعتز بها أبناء جنوب العراق يرتدونه ويهتمون به جيلا بعد جيل.

وكالة نيوزماتيك