منها إنطلقت الأبجدية إلى العالم
قصة عشق بين البحر والحجر عنوانها جبيل

ريما زهار من بيروت: بين الكاميرا وبلدة جبيل اللبنانية قصة غرام لا تنتهي فصولاً، فكل جزء من تلك البلدة يشكل لوحة فنية تهواها العين قبل أن تلتقطها آلة التصوير لتجسدها تاريخًا كُتبت لحظاته بادق التفاصيل. جبيل بلدة الحرف وانطلاقته الى العالم بدت تعج بالناس صبيحة ذلك اليوم من كل الاجناس والطوائف، فهذه البلدة المختلطة الطوائف لا تزال شعارًا للوحدة والتعايش بين ابنائها حيث يؤاخي المسجد الكنيسة لتنطلق الصلوات عاليًا في فضاء سماء مشرقة دائمًا. وتقدم البلدة لوحات رائعة لا تبدأ بالنزهة في أحد قواربها أو بالتمتع بسوقها العتيق، فكل ما فيها جميل والاجمل انها فسحة امل لبعض اللبنانيين والأجانب والعرب للتمتع بكل ما تقدمه من خدمات.

منظر عام لجبيل من البحر

جبيل بلدة لبنانية ساحلية تقع على بعد 37 كيلومتر إلى الشمال من بيروت، وهي اليوم مدينة مزدهرة تعجّ شوارعها بالمارة وترتفع فيها الأبنية الحديثة الشاهقة. غير أن احياءها القديمة ما تزال تضج بمعالم تاريخها الوسيط وبذكريات تاريخها القديم الذي يرقى إلى العصر الحجري الحديث، وهي ذكريات أبرزتها الحفريات الأثرية إلى حدّ باتت معه جبيل من أشهر المواقع الأثرية في المنطقة على الإطلاق.
تُعتبر جبيل من أقدم المدن في العالم ومن بين المواقع القليلة التي استمرّ عمرها منذ إنشائها حتى اليوم. وفيما اعتبر الفينيقيون أن مؤسسها كان الأهم quot;إيلquot; نفسه، فقد أظهرت الحفريات الأثرية التي أجريت فيها أن بداياتها تعود إلى أواخر الألف السادس قبل الميلاد

اسمها

عُرفت جبيل في العصور القديمة باسم quot;جُبلاquot; وquot;جبلquot; فيما كان يُطلق على المنطقة الساحلية التي تقوم فيها اسم quot;كنعانquot; غير أن الإغريق في الألف الأول ق.م.، ومن بعدهم الرومان، أطلقوا على الساحل اسم quot;فينيقياquot; كما أطلقوا على المدينة اسم quot;بيبلوسquot;. ويبدو أنهم اشتقوا هذه التسمية الجديدة من الكلمة التي كانت تعني في لغتهم quot;البرديquot;، نظرًا لارتباط جبيل بتجارة البردي المستورد من مصر

تاريخ جبيل

القلعة البحرية

منذ نحو 7000 سنة، أي في غضون العصر الحجري الحديث، أنشأت جماعات من الصيادين مُستقرًا لها على شاطئ المتوسط، فكان هذا المُستقر بمثابة القرية البدائية التي أصبحت في ما بعد جبيل. وقد كشفت الحفريات عن بقايا هذه القرية التي تتمثل بأكواخ ذات حجرة واحدة رُصفت أرضيتها بملاط من الكلس. وقد عُثر في هذه الأكواخ على عدد من الأدوات والأسلحة الظرّانية التي تعود إلى تلك الحقبة.


واستمر نمط العيش هذا في أثناء الحقبة التالية، أي في الألف الرابع ق.م.، التي عرف الإنسان فيها طرق النحاس إلى جانب أدواته الحجرية، وهي الفترة التي يُطلق عليها اسم quot;العصر الإنيوليتيquot;. بيد أن الحفريات أظهرت نمطًا جديدًا من العادات الجنائزية تمثلت بدفن الموتى مع بعض متاعهم في جرار كبيرة.


وما إن حلت بدايات الألف الثالث ق.م.، حتى شهدت جبيل ازدهارًا كبيرًا بفضل تجارة الأخشاب التي كانت تصدرها إلى أنحاء المتوسط الشرقي، ولا سيما إلى مصر، حيث كان المصريون يفتقدون الخشب اللازم لبناء سفنهم ومعابدهم ولضرورات طقوسهم الجنائزية. وكانت جبيل تحصل مقابل أخشابها على الأواني والحلى المصرية المصنوعة من الذهب والمرمر، بالإضافة إلى لفائف البردي ونسيج الكتان.

من منازلها الجميلة

ما لبثت فترة الازدهار تلك أن انحسرت في نهايات الألف الثالث ق.م. حتى تعرّضت جبيل للغزو والحريق من قبل بعض القبائل الأموريّة. وما إن تخلى المقبلون الجدد عن بداوتهم واستقروا حتى أعادوا إعمار المدينة كما أعادوا التواصل التجاري مع مصر إلى سابق عهده. وجدير بالذكر أن مدافن جبيل الملكيّة التي أبرزت الحفريات مدى ثرائها تعود بمجملها إلى تلك الفترة، مما يُشير إلى الازدهار الذي حققته جبيل في ظلّ الحكم الأموري.
وما أن أشرف الألف الثاني على الانتهاء حتى اجتاحت المتوسط الشرقي جماعات غريبة يطلق عليها المؤرخون اسم quot;شعوب البحرquot;. فاستقرت أعداد منها على سواحل بلاد كنعان الجنوبية، ويبدو أن القادمين الجدد كانوا في أساس نشر المعارف البحريّة والملاحة بين شعوب المنطقة التي أطلق عليها في ما بعد اسم

فينيقيا

كان كتبة جبيل في تلك الأثناء قد توصلوا إلى اختراع نمط جديد في الكتابة من خلال اعتماد رمز لكل صوت من الأصوات، مستبعدين الأسلوب المقطعيّ والرموز المسمارية أو الهيروغليفية التقليدية. فكانت أبجديتهم الصوتية النسخيّة بمثابة ثورة في مجال التدوين، لا سيما بعد أن أخذها عنهم الإغريق ومن بعدهم الرومان، فأصبحت بالتالي أساسًا لجميع الأبجديات المعاصرة. ومن بين أقدم النصوص التي اعتُمدت في كتابتها الأبجدية الفينيقية الكتابة المرموقة على ناووس quot;أحيرامquot; ملك جبيل الذي يُعتبر بحق جوهرة المتحف الوطني

في غضون الألف الأول ق.م.، وعلى الرغم من الاجتياحات المتكررة التي شهدها الساحل الفينيقي على أيدي الأشوريين والبابليين والفرس، ظلت تجارة جبيل تؤمن لأهلها نوعًا من الاستقرار والازدهار. وقد عُثر في حفريات المدينة على بقايا تعود إلى تلك الحقبة. بيد أن أبرز هذه البقايا على الإطلاق القلعة الفارسيّة (550-330 ق.م.) التي ما تزال جدرانها منتصبة إلى جانب السور القديم، مما يُشير إلى الدور الذي لعبته جبيل على خارطة النظام الدفاعي الفارسي في المتوسط الشرقي.
على أثر فتوحات الإسكندر الكبير، وفي أثناء الفترة المتأغرقة التي تلتها (330-64 ق.م.)، تأغرقت جبيل كما تأغرقت سائر مدن المنطقة، وأصبحت اللغة والثقافة الإغريقيتين مُثلاً تحتذي بها طبقات المجتمع العليا، وذلك حتى ما بعد سيطرة الرومان عليها

كنيسة الام الفقيرة الاثرية في جبيل

وفي أواسط القرن الأول ق.م.، احتلّ الرومان سواحل فينيقيا بقيادة quot;بومبيوسquot;، واستمرّوا في حكم البلاد فترة تزيد عن أربعة قرون ونصف القرن (64 ق.م.-395 ب.م.) وقد ازدانت جبيل في أيامهم بالمعابد والحمامات وسائر البُنى المدُنية كما شُقت فيها الشوارع ذات الأروقة

.
أما من الفترة البيزنطيّة (395-637)، فلم يبقَ في جبيل أثرٌ يُذكر. وقد يعود السبب في ذلك إلى استعمال أبنية تلك الفترة كمقالع لاستخراج الحجارة المقصوبة التي استُعملت في إنشاء عمائر الفترات اللاحقة

وفي العصر العربي، بُعيد عام 637، كانت جبيل قد أصبحت مدينة صغيرة هادئة وقد أخذت أهميتها تتضاءل حتى بداية القرن الثاني عشر عندما سقطت في أيدي الصليبيين. فقد احتلها هؤلاء عام 1104، وحوّلوها عام 1109 إلى إقطاع وراثي تابع لكونتيّة طرابلس، عهدوا به إلى أسرة quot;أمبرياتشيquot; الجنويّة. وفي تلك الفترة أقيمت في جبيل قلعتها المشهورة التي تمّ بناؤها بحجارة ومواد تمّ اقتلاعها من عمائر المدينة العائدة إلى العصور السابقة
أما في عهد المماليك والعثمانيين، فقد ضمُر شأن جبيل وتحوّلت إلى قرية صغيرة شبه خالية من السكان يكسو الغبار والتراب عمائرها القديمة

الحفريات الأثرية

مسجد السلطان عبد المجيد

مع مرور الزمن أخذت الطبقات السكنية المتعاقبة في موقع جبيل تتحول إلى تلّ ترابي بلغ ارتفاعه نحو اثني عشر مترًا وقد أقيمت فوقه المنازل وانتشرت في ارجائه البساتين. وفي سنة 1860، زار العالم الفرنسي quot;إرنست رينانquot; موقع جبيل وأجرى فيه بعض الاستكشافات والحفريات المحدودة. غير أن البحث الجدي عن آثار المدينة لم يجرِ إلا في نهاية الحرب العالميّة الأولى، عندما قام عالم العاديّات المصريّة quot;بيار مونتيهquot; بين عامي 1921-1924 بإجراء حفريات واسعة مكّنته من ابراز التواصل الحضاري بين جبيل ومصر الفرعونيّة. وفي عام 1925، تسلم ادارة الحفريات في الموقع الأثري الفرنسي quot;موريس دينانquot;، وبقي يعمل فيه لحساب المديريّة العامة للآثار اللبنانية حتى عام 1975، بحيث تمكّن من نفض الغبار عن الجزء الأكبر من تاريخه وآثاره .

* تصوير ريما زهار